
الجنة دار المُقامة والكرامة التي أعدّها الله تعالى لعباده المؤمنين، فيها مِن النعيم المقيم واللذة الدائمة ما يعجز الوصف عنه، فيها مِنَ النعيم ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بَشر.. وأما جهنم فهي النار التي أعدّها الله عز وجل للكافرين خالدين فيها، يعاني أهلها الحسرة والشقاء، ويذوقون فيها العذاب الشّديد الذي لا يتصوره بَشر.. والطريق إلى الآخرة لا يتشابه فيه السائرون، ولا تتشابه فيه الخُطى، ولهذا لم تكن الجنة منزلةً ودرجة واحدة، بل هي درجات متفاوتة في النعيم، وفي المقابل، لم تكن النار دَرَكة واحدة، بل دركاتٌ متفاوتة في العذاب كما تفاوتت أسباب دخولها..
درجات الجنة ودَرَكات النار:
قال الرَّاغِب الأصفهانيّ في "المفردات في غريب القرآن": "الدرَك كالدرَج، لَكِنَّ الدَّرَج يُقال اعتِبارًا بالصعود، والدرَك اعتِباراً بالحُدُور (الهبوط)، ولهذا قيل: دَرَجات الجَنَّة، ودَرَكات النار".. وقال ابن الأثير في "النهاية في غريب الحديث والأثر": "الدرَك بالتَّحريك، وقَد يُسَكَّن، واحِدُ الأدراك، وهي منازل في النار. والدرَك إلى أسفل، والدرَج إلى فوق".. وأضاف ابن رجب في "التخويف من النار والتعريف بحال دار البوار" فقال: "قال الضحاك: والدرَك إذا كان بعضها أسفل من بعض، وقال غيره: الجنة درجات والنار دركات. وقد تُسمَّى النار درجات أيضا، كما قال تعالى بعد أنْ ذكر أهل الجنة وأهل النار: {ولِكُلِّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا}(الأحقاف:19)، وقال: {أفمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ}(آل عمران:163:162) قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلَم: دَرَجات الجَنَّة تَذهب عُلُوًّا، ودَرَجات النَّار تَذهَب سُفُولًا".. وقال أبو البَقاء الحَنفيّ في "الكليات": "الدَّرَجة: هي نَحو المَنزِلة، إلَّا أنَّها تُقال إذا اعتُبِرت بالصعود كما في الجِنان. والدَّرَك لِلسَّافِل (للنازل) كما في النِّيران، وقوله تعالى: {ولِكُلِّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} فمِن باب التَّغليب.. إلَّا أنَّ زيادة أهل الجَنَّة في الخيرات والطاعات، وزيادة أهل الشَّرِّ في المَعاصي والسيئات".. وقال ابن عاشور في "التحرير والتنوير": "َوالدَّرَك: اسْم جَمْعِ دَرَكَة، ضِدّ الدَّرَج اسْم جَمْع دَرَجَة. وَالدَّرَكَةُ الْمَنْزِلَة فِي الْهُبُوط. فَالشَّيْء الذي يُقْصَد أَسْفَلُه تَكُونُ مُنَازِلُ التَّدَلِّي إِلَيْهِ دَرَكَاتٍ، وَالشَّيْء الَّذِي يُقْصَد أَعْلَاه تكون مَنَازِل الرُّقِيِّ إليه درجات، وقد يُطْلَق الِاسْمَانِ عَلَى الْمَنْزِلَة الْوَاحِدَة بِاخْتِلَافِ الِاعْتِبَار".
دركات النار وتفاوت العذاب فيها:
النار دركات، وأهلها متفاوتون في العذاب فيها على قدْر كفرهم وأعمالهم، والآيات القرآنية والأحاديث النبوية في ذلك كثيرة، ومِنها:
1 ـ قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا}(النساء:145).
قال الطبري: "إنَّ المُنافِقين في الطَّبَق الأسفَل مِن أطباق جَهَنَّم، وكُلُّ طَبَقٍ مِن أطباقِ جَهَنَّم دَرَك".. وأضاف ابن كثير: "أخبر تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} أي: يوم القيامة، جَزاءً على كُفرِهم الغَليظ. قال الوالِبيُّ عن ابن عباس: {فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} أي: في أسفَل النار. وقال غيره: النار دَرَكات، كَما أنَّ الجَنَّةَ دَرَجات".. وقال السمعاني: "{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} قال أبو عبيدة والأخفش: النَّار دركات، والْجنَّة دَرَجَات، قال أهل الْعلم: يجوز أَن يكون فِرْعَوْن وهامان أَشد عذَابا من الْمُنَافِقين، وإِنْ كان المنافقون في الدَّرك الْأَسْفل". وقال ابن عاشور: "وإنما كان المنافقون في الدَّرَكِ الْأَسْفَل، أي في أذَلِّ منازل العذاب، لأن كفرهم أسوأ الكفر لما حف به من الرذائل"..
وفصل القُرطُبيّ في "التذكرة" فقال: "هذا الباب يدلك على أنَّ كُفر مَن كَفر فقَط ليس كَكُفرِ مَن طَغى وكَفر وتَمرَّد وعصى، ولا شَكَّ أنَّ الكفار في عذاب جَهَنم متفاوِتون كما قَد عُلِمَ مِنَ الكتاب والسُّنَّة، ولَأنَّا نعلم على القَطْع والثَّبات أنه ليس عذاب مَن قَتل الأنبياء والمسلمين وفَتَك فيهم وأفسَد في الأرض وكفر، مُساويًا لِعَذاب مَن كفر فقط وأحسَن للأنبياء والمسلمين، ألا ترى أبا طالِبٍ كيف أخرجه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى ضَحضاحٍ لِنُصرَتِه إيَّاه، وذَبِّه (دفاعه) عنه وإحسانه إليه؟!"..
وأضاف ابن رجب في "التخويف من النار" بقوله: "اعلَمْ أنَّ تَفاوُت أهل النار في العذاب هو بحَسب تَفاوُت أعمالهم التي دَخَلُوا بها النَّار كما قال تعالى: {وَلِكُلِّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا}(الأحقاف:19)، وقال تعالى: {جَزَاءً وِفَاقًا}(النبأ:26)، قال ابن عباس: وافَقَ أعمالَهم، فليس عِقاب مَن تَغَلَّظ كُفره، وأفسَد في الأرض، ودعا إلى الكفر، كَمَن ليسَ كذلك، قال تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدَّوا عَن سَبيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ}(النحل:88)، وقال تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ}(غافر:46)،وكَذَلِكَ تَفاوُت عذاب عُصاة المُوحِّدين في النار بحَسب أعمالهم، فليس عُقوبة أهل الكبائر كعقوبة أصحاب الصغائر، وقَد يُخَفَّف عَن بَعضِهم العَذاب بحَسَناتٍ أُخَرَ له، أو بما شاءَ الله مِنَ الأسباب"..
2 ـ قال الله تعالى: {وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا}(الإسراء:21). قال ابن كثير: "أي: ولَتفاوتهم في الدار الآخرة أكبر من الدنيا، فإن منهم مَنْ يكون في الدركات في جهنم وسلاسلها وأغلالها، ومنهم من يكون في الدرجات العلى ونعيمها وسرورها، ثم أهل الدركات يتفاوتون فيما هم فيه، كما أن أهل الدرجات يتفاوتون"..
3 ـ قال تعالى: {هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللهِ}(آل عمران:163). قال السعدي: "أي: كل هؤلاء متفاوتون في درجاتهم ومنازلهم بحسب تفاوتهم في أعمالهم، فالمتبعون لرضوان الله يسعون في نيل الدرجات العاليات، والمنازل والغرفات، فيعطيهم الله من فضله وجوده على قدر أعمالهم. والمتبعون لمساخط الله يسعون في النزول في الدركات إلى أسفل سافلين، كل على حسب عمله"..
4 ـ عن عُتْبَة بن غَزْوان رضي الله عنه قال: (قدْ ذُكِرَ لَنَا أنَّ الحَجَرَ يُلْقَى مِن شَفَةِ جَهَنَّمَ، فَيَهْوِي فِيهَا سَبْعِينَ عَامًا، لا يُدْرِكُ لَهَا قَعْرًا) رواه مسلم.. (قد ذُكِر لنا) يُشيرُ بذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم: (أنَّ الحَجَر يُلقَى مِن شَفَةِ جَهنَّم) أي: مِن طَرَفِها (فيَهوِي) أي: يَظَلُّ يَنزِلُ ويَسقُطُ فيها قَدْرَ سبعينَ عامًا ولا يَصِلُ إلى آخِرِ ما بداخلِها وعُمقِها..
5 ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (كُنَّا مع رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، إذْ سَمِعَ وَجْبَة (السَّقطة مِن عُلوٍّ إلى أَسفلَ بصَوتٍ مُزعجٍ كصَوتِ الهَدمِ) ، فَقالَ النبي صلى الله عليه وسلم: تَدْرُونَ ما هذا (سبب الصوت)؟ قالَ: قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قالَ: هذا حَجَرٌ رُمِيَ به في النَّارِ مُنْذُ سَبْعِينَ خَرِيفًا (والمرادُ بالخريف السنة)، فَهو يَهْوِي في النَّارِ الآنَ، حتَّى انْتَهَى إلى قَعْرِهَا) رواه مسلم.
قال ابن هبيرة في "الإفصاح عن معاني الصحاح": "في هذا الحديث من الفقه: أن الله عز وجل أسمع رسوله صلى الله عليه وسلم ومَنْ حضر معه مِن أصحابه وجبة: وقوع هذا الحجر في النار، ليجري على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ذِكْر مقدار عمق جهنم، وأنها مسيرة سبعين سنة للحجر الذي يهوي به في هذا الهبوط على سرعة تشابه سرعة النجم، والله تعالى يرحمنا بإعاذتنا من هذه النار"..
فائدة:
1 ـ النّار مثوَى الكافرين والمنافقين، والفُجار والأشرار، نار قال الله تعالى عنها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ}(التحريم:6). قال ابن عاشور: "وتنكير {نَارًا} للتعظيم، وأجري عليها وصف بجملة وقودها الناس والحجارة زيادة في التحذير لئلا يكونوا من وقود النار، وتذكيراً بحال المشركين الذي في قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ}(الْأَنْبِياء:98)، وتفظيعًا للنار إذ يكون الحجر عوضا لها عن الحطب"..
2 ـ عُصاة المسلمين أقَلّ أهل النَّارِ عَذابًا ـ إذا لم يغفر الله تعالى لهم بفضله ـ، فإنهم يدخلون النَّارَ فيَعذَّبون فيها على قَدرِ أعمالهم، ثُمَّ يخرجون مِنها ويدخلون الجنة، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}(النساء:48). والأحاديث النبوية الصحيحة المتواترة الدالة على إخراج عصاة الموحدين من النار، وعدم خلودهم فيها كثيرة، ومن ذلك الحديث الذي رواه البخاري عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: (كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أتبايعوني على ألا تشركوا بالله شيئا ولا تزنوا ولا تسرقوا.. فمن وفَّى منكم فأجره على الله، ومَنْ أصاب في ذلك شيئا فعوقب فهو كفارة له، ومن أصاب منها شيئا من ذلك فستره الله فهو إلى الله، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له) رواه البخاري.
قال ابن رجب: "وكذلك تفاوت عذاب عصاة الموحدين في النار، بحسب أعمالهم، فليس عقوبة أهل الكبائر، كعقوبة أصحاب الصغائر، وقد يخفف عن بعضهم العذاب، بحسنات أخر له، أو بما شاء الله من الأسباب".. وقال الشيخ ابن عثيمين: "عُصاة المسلمين ثلاثة أقسام: قسم يغفر الله له ولا يدخل النار أصلاً، وقسم آخر يدخل النار ويعذب بقدر ذنوبه ثم يخرج، وقسم ثالث يدخل النار ويعذَّب، ولكن يكون له الشفاعة، فيخرج من النار قبل أن يستكمل ما يستحقه من العذاب".. وهذا القدْر من العذاب لعصاة المسلمين لا يعلم قدر شدته ولا قدر مدته إلا الله عز وجل، وهم في ذلك يتفاوتون بحسب معاصيهم..
وختامًا، فإنَّ الإيمان بالجنة والنار، وما أعدَّه الله تعالى للمؤمنين مِنْ نعيمٍ في الجنة لم تره عين ولم يخطر على قلب بشر، ومِنْ عذابٍ للكافرين في نارٍ وقودها الناس والحجارة، يدخل ضمن الإيمان باليوم الآخر الذي هو ركن من أركان الإيمان.. والجنّة درجاتٌ متفاوتة في النعيم بتفاوت أهلها في الإيمان والتقوى والعمل الصالح، والنار دركات متفاوتة في العذاب بتفاوت أهلها في الكفر والمعاصي، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اتقوا النار ولو بِشِقِّ تمْرة) رواه البخاري.
نسأل الله تعالى أنْ يُنجينا مِنَ النار، وأنْ يدخلنا الجنّة مع الأبرار..