
في ريِّقِ الشَّباب، كان لنا مجلسٌ شبابيٌّ لقراءةِ كتاب "رياض الصَّالحين"، في منزلِ أحد أصدقائنا. كنَّا نقرأ، ثمَّ نحاولُ فَهم النَّص النَّبوي المزدان بأنوارِ النُّبوة، ونستخرجُ النكات واللطائف التي تشكَّلت من ظلالِ المعنى قدر استطاعتنا. كانَ ذلكَ تدريبًا مبكِّرًا للتأمُّل في المسطورِ العالي، وتلكَ المجالسُ - عندي - بالدُّنيا وما فيها.
ومن أنْعَمَ النَّظَر في كلامِ النَّبي صلى الله عليه وسلم، اتضحَ له أنها نصوص ترتفعُ عن المستوى البشري في البيان، فكلامه صلى الله عليه وسلم موصوفٌ بالبلاغةِ العالية، بلاغة إنسانية سجدت الأفكار لآيتها، وحسرت العقول دونَ غايتها، لم تُصنع وهي من الإحكام كأنها مصنوعة، ولم يتكلَّف لها وهي على السهولة بعيدة ممنوعة. وقد "بلغَت كمال البيان البشري". ودونكَ أي نصٍّ نبويٍّ صحيح، تأمله وانظر فيه، فهو زادٌ أدبيٌّ بديعٌ لمن رامَ الأدب وفنون القول.
ولا أظنني مجافيًا للصَّواب إن قلتُ إنَّ الارتقاء بخلَّةِ البيان لدى شُداةِ الأدب وطلابه ترتبطُ ارتباطًا وثيقًا بمقدارِ التَّعمُّق في النُّصوصِ الأولى للشَّريعة؛ فهي الجوهر والأساس الذي تُستقى منه أسمى قواعد العربية وأبلغ تعابيرها. إنها النُّصوص البكر التي تهبُ الفكر شرارة الانطلاق، وتحمله إلى معارج السُّمو البياني، فإذا كان المرء قليل المعرفة بها، فإنَّ ذوقه اللغوي سيكونُ ضعيفًا، أما إن بلغَ التَّمكن منها وما يتصلُ بهما، فقد بلغَ الكمال في فهمِ اللغة العربية وتذوق البيان وامتلاك ناصية التَّعبير الفصيح.
النص النبوي في عيون فحول الأدب
وقد تنبَّه لبيانه العالي لفيفٌ من الأدباءِ قديمًا وحديثًا، فكتبوا في بلاغته العالية، وأشادوا بإيجازه المدهش، ودقته المحكمة، فما تركوا فنًّا من فنونِ القول والبيان إلا وأبانوا عن سبق نصوص النُّبوة لها، فكشفوا عن أسرار ألفاظها العامرة بقلبٍ متصلٍ بجلالِ خالقه، المصقولة بلسانٍ نزَلَ عليه القرآن بحقائقه. ودونكم ما كَتَبَه أرباب البلاغة والبيان من أمثال "الجاحظ وأبي هلال وابن الأثير والشَّريف الرضي"، عن معاقدِ البيان في كلام النَّبي صلى الله عليه وسلم، وفي العصرِ الحديث ما سَطَّره الرَّافعي في إعجازه، وكذا ما عقده من فصلٍ فاتنٍ في "وحي القلم" عن "السُّمو الرُّوحي الأعظم" للإبانة عن مكنون النَّصِّ النَّبوي وجماله.
ولعلَّ ما سطَّرَه أديب العربية ومقدم أهل الصَّنْعَة البحر أبي عثمان في وصفِ نور البيان الذي يجري على لسانِ النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم من أهم ما يُستشهَدُ به، يقول الجاحظ في بيانه: «استعمل المبسوطَ في موضع البسط، والمقصور في موضع القصر، وهجر الغريب والوحشي، فلم ينطق إلا عن ميراث حكمة، ولم يتكلم إلا بكلام قد حُفَّ بالعصمة...». ويقول - رحمه الله -: «ولم يسمع الناس بكلام قط أعم نفعًا، ولا أقصد لفظًا، ولا أعدل وزنًا، ولا أجمل مذهبًا، ولا أكرم مطلبًا، ولا أحسن موقعًا، ولا أسهل مخرجًا، ولا أفصح معنى، ولا أبين فحوى من كلامه صلى الله عليه وسلم، وما أورده الجاحظ ليسَ مجرد تكلف في الامتداح والتَّجويد، ولكنه مستنبطٌ مما عُرِفَ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم"وكل ما صحَّ عنه فهو موصوفٌ بالبلاغةِ العالية"، ولهذا النوع من البيانِ موقعٌ عظيمٌ؛ لأنه يعتمدُ على كشفِ المعنى وإيضاحه حتى يصل إلى النُّفوس على أحسن صورة وأسهلها، وهي إحدى تجليات التَّلقي التي وقعت للنَّبي صلى الله عليه وسلم من أنوارِ الوحيِ الإلهي لأنها جاءت من سبيله.
أثر النصوص النبوية في الأدب العربي:
وقد تركَ البيان النَّبوي ظلاله الكثيفة على تاريخِ البيان العربي، فمن تأمَّل النُّصوص الأدبية التي أبدعها فحول البلغاء في القديمِ والحديث، أحسَّ بوضوح تأثير البيان النَّبوي، سواء في تأييد فكرة، أو تأكيد عبارة، أو إيضاح رأي. ونراه يترك في مجاله ما يتركه الورد من نفحٍ فواح. وإنكَ لتقرأ المقال ضعيفًا وانيًا، وما تزالُ تحدِّثُ نفسك على إهماله حتى تجد الكاتب يُلمُّ بأثرٍ نبويٍّ جاء به في مكانه، فكأنَّ صبحًا أضاء على غير انتظار فاكتسح الظلمات، ولن يكون ذلك إلا بإبداع ملهم مطبوع". ولا نعلمُ أنَّ هذه الفصاحة المدهشة قد كانت له إلا توفيقًا من الله وتوقيفًا، إذ ابتعثه للعرب وهم قومٌ يُقادونَ من ألسنتهم، ولهم المقامات المشهورة في البيان والفصاحة؛ فناسبَ علو خطابه، مقام من سمعوا حديثه، ولهذا، يكون النَّص النبوي من أعلى النُّصوص العربية أسلوبًا، وحُسنًا، وبيانًا، يزهرُ بفكرٍ صائبٍ، ومنطقٍ متسلسل، وأسلوب مطَّرد.
إشراقات من البيان النبوي:
كنتُ كلما قرأتُ حديثًا للنَّبي ﷺ أقفُ مليًّا، أُنْعِمُ النَّظَرَ في إشراقه، وإيجازه، وشموله، وقد أدركَ الشُّرَّاح عمقَ النَّص النَّبوي، وجلاله، فكتبوا وشرحوا وأطالوا البيان، لأنهم وقفوا على ما يدهش، انظر مدونات الحديث النبوي، واقرأ بعينِ البصير، وخذ أي حديث، وانظر فيه نَظَرَ مدقِّقٍ باحثٍ يرومُ كشفَ الأستار، ويبحثُ عن مكامنِ الجمال، فإن قرأتَ حديثًا في "موعظةٍ قلتَ أنين من فؤادٍ مقروح، وإن راعت بالحكمة قلت صورة بشرية من الرُّوح في منزعٍ يلين فينفر بالدُّموع ويشتد فينزو بالدِّماء، وإذا أراك القرآن أنه خطاب السَّماء للأرض أراك هذا أنه كلام الأرض بعد السَّماء". فطوبى لمن ملأ وطَابَهُ من كلامِ أفصحِ ناطقٍ بالضَّاد!
ولعلَّ مايحضرني في هذا المقام، قولُ النَّبي صلى الله عليه وسلم: "طوبی لعبدٍ آخذ بعنانِ فرسه، أشعث رأسه مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في السَّاقة كان في السَّاقة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفعَ لم يشفَّع". أرأيت كم من الصُّور الإنسانية أومأ إليها هذا الأثر الشَّريف، كأنك تراها رأي العين، مجاهد يأخذ بعنانِ فرسه مغبرة قدماه أشعث رأسه، لا يريدُ إلا الله وما عنده، لا يعرفه النَّاس، لكنه عند الله عزيز. وفي ظني أنَّ تجارِب النَّبي صلى الله عليه وسلم مع البشر قد أسعفته بهذه الصور وأمثالها، فهو يمنح من نبعٍ في نفسه لا يغيض، على أنه يكتفى بالإيماء اللامح لا الإسهاب المفرط، ليدعو السَّامعين إلى التفكير، وتلك إحدى مزايا الإيجاز.
وتحكي كتب الحديثِ والأخبار أنَّ ضمادًا قَدِمَ مكَّةَ، وكان يرقي من هذه الرِّيح (الجن)، فسمع سفهاء مكة، يقولون: إنَّ محمَّدًا مجنون، فطمِعَ الرجل أن يشفى النَّبي على يديه، فأسمعه النَّبي صَدرَ خطبةِ الحاجة: "إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأنَّ محمَّدًا عبده ورسوله، أمَّا بعد...". فقال ضماد - وقد أخذته الدَّهشة من سطوةِ ما سَمع-: "أعِدْ عليَّ كلماتك هؤلاء، فأعادهنَّ عليه رسول الله ثلاث مرات. فقال: "لقد سمعت قول الكهنة، وقول السَّحرة، وقول الشُّعراء، فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء، ولقد بلغن ناعوس البحر (أي وسطه)، هات يدكَ أبايعكَ على الإسلام". ولعلَّ سماعنا لخطبةِ الحاجة مرارًا أفقدنا القدرة على تأمل مضمونها وطابعها الفريد.
وكلما قرأتُ كلام النَّبي صلى الله عليه وسلم للأنصارِ تندُّ من عيني دمعة، وأجدني في تلكَ البقاع مطأطئ الرأس بين يدي النَّبي الأعظم، أشعر بصدقِ ألفاظها، وحرارة الحبِّ في تضاعيفها، والعاطفة التي تسكنها، وعلو فصاحتها، وسهولة مفرداتها، مما لا يكاد يتأتى لكبار البلغاء، فتراهم يحومونَ حولَ ذلك، ولا يدركون بعضه إلا بعد جهدٍ بليغ. فقد جمَعَ النَّبي صلى الله عليه وسلم الأنصار وقال مخاطبًا لهم: "يا معشر الأنصار: ما قَالَةٌ بلغتني عنكم، وجدة وجدتموها عليَّ في أنفسكم؟ ألم آتكم ضُلَّالًا فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألَّفَ الله بين قلوبكم. قالوا: بلى، الله ورسوله أمن وأفضل. ثمَّ قال: "أما والله لو شئتم لقلتم، فصدَقتُم وصُدِّقتُم: أتيتنا مكذبًا فصدقناك، ومخذولًا فنصرناك، وطريدًا فآويناك، وعائلًا فآسيناك. أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم في لعاعة من الدُّنيا تألفتُ بها قومًا ليسلموا. ووكلتكم إلى إسلامكم، ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب النَّاس بالشاة والبعير، وترجعوا برسول الله إلى رحالكم؟ فوالذي نفس محمَّدٍ بيده، لولا الهجرة لكنتُ امرأً من الأنصار، ولو سَلَكَ النَّاس شعبًا وسلكت الأنصار شعبًا، لسلكتُ شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار ". دونكَ النَّصُّ الموشَّحُ بعاطفةٍ لاحبة، وصدقٍ ظاهر، أعد النَّظر لتكشف أضربًا من الجمالِ والجلال والدَّهشة، ومتانة الأسلوب، وجزالة اللفظ، وتنوعه، ومناسبته لواقعِ الحال.
ولتدع الحديث المتصل المنسوج من قوله، والخطبة البليغة المنبثقة من بيانه، والرسالة السَّائرة من إنشائه، وانظر إلى إجابته العابرة على سؤالٍ طارئ، أو تعليقه الموجز على واقعة حال، فإنكَ ترى هذا الطَّابع الفريد يشعُّ عليك نورًا من أفكاره، وقد انتقيتُ لكَ منها ما كانَ يسير الإيراد، فجميع كلامه موجزٌ، محكمٌ، متين.
يسمعُ رسول الله أعرابيًّا يقولُ بعد صلاته: اللهم ارحمني ومحمَّدًا، ولا ترحم معنا أحدًا فيردُّ عليه في رفقٍ: "لقد تحجَّرتَ واسعًا". ويرى حادي المطايا يسرعُ بالنِّساء، فيقول له: "رفقًا بالقوارير" ويصفُ له بالمدينة قادم من مكَّة بعض مشاهدها فتغرورق عيناه حنينًا لمطارح صباه ويقولُ في هدوءٍ: "دع القلوب تقر". ويُسأَلُ عن صحابيٍّ لا ينامُ الليل، بل يقرأ ويذكر، فيقول: "ذاكَ رجلٌ لا يَتوسَّدُ القُرآنَ". ويرى سائلًا يتكفَّفُ فيصيحُ به: "اليد العليا خيرٌ من اليدِ السُّفلى". ويصف وقْعَ سورة هود في نفسه الشَّريفة، فيقول في ألمٍ: "شيبتني هود وأخواتها".
وقد ساقَ الأستاذ الرَّاحل محمَّد رجب بيومي تعليقًا متينًا على مجملِ النَّص النَّبوي الرَّفيع، وأثره في إحياء الأدب العربي، فقال: "ألا يرى المنصفُ أنَّ لأسلوب محمَّد ﷺ طابعًا فريدًا يلوحُ في فنونِ أدبه وتضاعيف حديثه أنَّه طابع الخلوص والقصد والاستيفاء، ويعنى بالخلوص النَّفاذ إلى اللباب من طريقٍ سهلٍ يسير، وبالقصد الإيجاز الذي تحل فيه الكلمة محل جمل مترادفات، وبالاستيفاء وقوع الكلام تامًّا مبسوطًا لا ينقطع دونَ الغاية".
ختامًا:
لعلكَ تدركُ الهدف من وراءِ ما كتبتُه عن إشراقِ البيان المحمَّدي، فدونكم يا شداة الأدب، وطلاب الكلمة، هذا النَّبع الفيَّاض، منجمُ الأدبِ العالي، الإرث الخالد لكلِّ من رامَ الأدب والبلاغة، المتجلي في فنونِ الخطبة، والرَّسائل، والأقصوصة، والأمثال، والحديث المتبادل، والابتهال السَّماوي. فهو مصدرٌ أصيلٌ يثري اللغة، ويرقى بالذَّوق، ويمنح الأدب العربي تألقًا. فطوبى لمن نهَلَ من معينه، فاغترف منه زادًا يمده بفنونِ القول ويهديه إلى أسمى معارجِ البيان.