المسألة الرابعة : في المقدار الذي لا بد من بقائه بعد التخصيص
اختلفوا في
nindex.php?page=treesubj&link=21171المقدار الذي لا بد من بقائه بعد التخصيص على مذاهب :
المذهب الأول : أنه لا بد من بقاء جمع يقرب من مدلول العام ، وإليه ذهب الأكثر ، وحكاه
nindex.php?page=showalam&ids=14552الآمدي عن أكثر أصحاب
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي .
قال : وإليه مال
nindex.php?page=showalam&ids=12441إمام الحرمين ، ونقله
الرازي عن
أبي الحسين البصري ، ونقله
ابن برهان عن المعتزلة .
قال
الأصفهاني : ما نسبه
nindex.php?page=showalam&ids=14552الآمدي إلى الجمهور ليس بجيد ، نعم اختاره
nindex.php?page=showalam&ids=14847الغزالي ،
والرازي .
المذهب الثاني : أن العام إن كان مفردا كمن ، والألف واللام ، نحو : اقتل من في الدار ، واقطع السارق ، جاز التخصيص إلى أقل المراتب ، وهو واحد ; لأن الاسم يصلح لهما جميعا ، وإن كان بلفظ الجمع كالمسلمين ، جاز إلى أقل الجمع ، وذلك إما
[ ص: 414 ] ثلاثة أو اثنان على الخلاف ، قاله
nindex.php?page=showalam&ids=15022القفال الشاشي ،
وابن الصباغ .
قال الشيخ
nindex.php?page=showalam&ids=11812أبو إسحاق الإسفراييني : لا خلاف في جواز التخصيص إلى واحد ، فيما إذا لم تكن الصيغة جمعا كمن ، والألف واللام .
المذهب الثالث : التفصيل بين أن يكون التخصيص بالاستثناء ، والبدل ، فيجوز إلى الواحد ، وإلا فلا يجوز ، قال
الزركشي حكاه
ابن المطهر ، وهذا المذهب داخل في المذهب السادس كما سيأتي .
المذهب الرابع : أنه يجوز إلى أقل الجمع مطلقا ، على حسب اختلافهم في أقل الجمع ، حكاه
ابن برهان ، وغيره .
المذهب الخامس : أنه يجوز إلى الواحد في جميع ألفاظ العموم ، حكاه إمام الحرمين في التلخيص عن معظم أصحاب
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي قال : وهو الذي اختاره
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي ، ونقله
ابن السمعاني في القواطع عن سائر أصحاب
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي ما عدا
القفال ، وحكاه الأستاذ
nindex.php?page=showalam&ids=11812أبو إسحاق الإسفراييني في أصول عن إجماع الشافعية ، وحكاه
ابن الصباغ في العدة عن أكثر الشافعية ، وصححه
nindex.php?page=showalam&ids=11872القاضي أبو الطيب ،
والشيخ أبو إسحاق ، ونسبه القاضي
عبد الوهاب في الإفادة إلى الجمهور .
المذهب السادس : إن كان التخصيص بمتصل ، فإن كان بالاستثناء أو البدل ، جاز إلى الواحد ، نحو : أكرم الناس إلا الجهال ، وأكرم الناس إلا تميما ، وإن كان بالصفة أو الشرط ، فيجوز إلى اثنين ، نحو : أكرم القوم الفضلاء ، أو إذا كانوا فضلاء .
وإن كان التخصيص بمنفصل ، وكان في العام المحصور القليل كقولك : قتلت كل زنديق ، وكانوا ثلاثة أو أربعة ، ولم تقتل سوى اثنين ، جاز إلى اثنين ، وإن كان العام غير محصور أو كان محصورا كثيرا ، جاز ، بشرط كون الباقي قريبا من مدلول العام ، هكذا ذكره
nindex.php?page=showalam&ids=12671ابن الحاجب ، واختاره .
[ ص: 415 ] قال
الأصفهاني في شرح
المحصول : ولا نعرفه لغيره .
احتج الأولون بأنه لو قال قائل : قتلت كل من في المدينة ، ولم يقتل إلا ثلاثة ، عد لاغيا مخطئا في كلامه ، وهكذا لو قال : أكرمت كل العلماء ، ولم يكرم إلا ثلاثة ، أو قتلت جميع بني تميم ، ولم يقتل إلا ثلاثة .
واحتج القائلون بجواز التخصيص إلى اثنين أو ثلاثة : بأن ذلك أقل الجمع على الخلاف المتقدم .
ويجاب : بأن ذلك خارج عن محل النزاع ، فإن الكلام إنما هو في العام ، والجمع ليس بعام ، ولا تلازم بينهما .
واستدل القائلون بجواز التخصيص إلى واحد : بأنه يجوز أن يقول : أكرم الناس إلا الجهال ، وإن كان العالم واحدا .
ويجاب عنه : بأن محل النزاع هو أن يكون مدلول العام موجودا في الخارج ، ومثل هذه الصورة اتفاقية ، ولا يعتبر بها ، فالناس هاهنا ليس بعام ، بل هو للمعهود ، كما في قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=173الذين قال لهم الناس فإن المراد بالناس المعهود ، وهو
نعيم بن مسعود ، والمعهود ليس بعام .
واستدلوا أيضا : بأنه يجوز أن يقول القائل : أكلت الخبز ، وشربت الماء ، والمراد الشيء اليسير مما يتناوله الماء والخبز .
وأجيب عن ذلك : بأنه غير محل النزاع ، فإن كل واحد من الخبز والماء في المثالين ليس بعام ، بل هو للبعض الخارجي المطابق للمعهود الذهني ، وهو الخبز والماء المقرر في الذهن أنه يؤكل ويشرب ، وهو مقدار معلوم .
والذي ينبغي اعتماده في مثل هذا المقام أنه لا بد أن يبقى بعد التخصيص ما يصح أن يكون مدلولا للعام ، ولو في بعض الحالات ، وعلى بعض التقادير ، كما تشهد لذلك الاستعمالات القرآنية ، والكلمات العربية ، ولا وجه لتقييد الباقي بكونه أكثر مما قد
[ ص: 416 ] خصص ، أو بكونه أقرب إلى مدلول العام ، فإن هذه الأكثرية والأقربية لا تقتضيان كون ذلك الأكثر والأقرب هما مدلولا العام على التمام ، فإنه بمجرد إخراج فرد من أفراد العام يصير العام غير شامل لأفراده ، كما يصير غير شامل لها عند إخراج أكثرها ، ولا يصح أن يقال هاهنا : إن الأكثر في حكم الكل ; لأن النزاع في مدلول اللفظ ، ولهذا يأتي الخلاف السابق في كون دلالة العام على ما بقي بعد التخصيص من باب الحقيقة أو المجاز ، ولو كان المخرج فردا واحدا .
وإذا عرفت أنه لا وجه للتقييد بكون الباقي بعد التخصيص أكثر أو أقرب إلى مدلول العام ، عرفت أيضا أنه لا وجه للتقييد بكونه جمعا ; لأن النزاع في معنى العموم ، لا في معنى الجمع ، ولا وجه لقول من قال بالفرق بين كون الصيغة مفردة لفظا كمن ، وما ، والمعرف باللام ، وبين كونها غير مفردة ، فإن هذه الصيغ التي ألفاظها مفردة لا خلاف في كون معانيها متعددة ، والاعتبار إنما هو بالمعاني لا بمجرد الألفاظ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : فِي الْمِقْدَارِ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْ بَقَائِهِ بَعْدَ التَّخْصِيصِ
اخْتَلَفُوا فِي
nindex.php?page=treesubj&link=21171الْمِقْدَارِ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْ بَقَائِهِ بَعْدَ التَّخْصِيصِ عَلَى مَذَاهِبَ :
الْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ : أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ بَقَاءِ جَمْعٍ يُقَرِّبُ مِنْ مَدْلُولِ الْعَامِّ ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْأَكْثَرُ ، وَحَكَاهُ
nindex.php?page=showalam&ids=14552الْآمِدِيُّ عَنْ أَكْثَرِ أَصْحَابِ
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيِّ .
قَالَ : وَإِلَيْهِ مَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=12441إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ ، وَنَقَلَهُ
الرَّازِيُّ عَنْ
أَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ ، وَنَقَلَهُ
ابْنُ بُرْهَانٍ عَنِ الْمُعْتَزِلَةِ .
قَالَ
الْأَصْفَهَانِيُّ : مَا نَسَبَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=14552الْآمِدِيُّ إِلَى الْجُمْهُورِ لَيْسَ بِجَيِّدٍ ، نَعَمِ اخْتَارَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=14847الْغَزَالِيُّ ،
وَالرَّازِيُّ .
الْمَذْهَبُ الثَّانِي : أَنَّ الْعَامَّ إِنْ كَانَ مُفْرَدًا كَمَنْ ، وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ ، نَحْوَ : اقْتُلْ مَنْ فِي الدَّارِ ، وَاقْطَعِ السَّارِقَ ، جَازَ التَّخْصِيصُ إِلَى أَقَلِّ الْمَرَاتِبِ ، وَهُوَ وَاحِدٌ ; لِأَنَّ الِاسْمَ يَصْلُحُ لَهُمَا جَمِيعًا ، وَإِنْ كَانَ بِلَفْظِ الْجَمْعِ كَالْمُسْلِمِينَ ، جَازَ إِلَى أَقَلِّ الْجَمْعِ ، وَذَلِكَ إِمَّا
[ ص: 414 ] ثَلَاثَةٌ أَوِ اثْنَانِ عَلَى الْخِلَافِ ، قَالَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=15022الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ ،
وَابْنُ الصَّبَّاغِ .
قَالَ الشَّيْخُ
nindex.php?page=showalam&ids=11812أَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَايِينِي : لَا خِلَافَ فِي جَوَازِ التَّخْصِيصِ إِلَى وَاحِدٍ ، فِيمَا إِذَا لَمْ تَكُنِ الصِّيغَةُ جَمْعًا كَمَنْ ، وَالْأَلِفِ وَاللَّامِ .
الْمَذْهَبُ الثَّالِثُ : التَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ التَّخْصِيصُ بِالِاسْتِثْنَاءِ ، وَالْبَدَلِ ، فَيَجُوزُ إِلَى الْوَاحِدِ ، وَإِلَّا فَلَا يَجُوزُ ، قَالَ
الزَّرْكَشِيُّ حَكَاهُ
ابْنُ الْمُطَهِّرِ ، وَهَذَا الْمَذْهَبُ دَاخِلٌ فِي الْمَذْهَبِ السَّادِسِ كَمَا سَيَأْتِي .
الْمَذْهَبُ الرَّابِعُ : أَنَّهُ يَجُوزُ إِلَى أَقَلِّ الْجَمْعِ مُطْلَقًا ، عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِهِمْ فِي أَقَلِّ الْجَمْعِ ، حَكَاهُ
ابْنُ بُرْهَانٍ ، وَغَيْرُهُ .
الْمَذْهَبُ الْخَامِسُ : أَنَّهُ يَجُوزُ إِلَى الْوَاحِدِ فِي جَمِيعِ أَلْفَاظِ الْعُمُومِ ، حَكَاهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي التَّلْخِيصِ عَنْ مُعْظَمِ أَصْحَابِ
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيِّ قَالَ : وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيُّ ، وَنَقَلَهُ
ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي الْقَوَاطِعِ عَنْ سَائِرِ أَصْحَابِ
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيِّ مَا عَدَا
الْقَفَّالَ ، وَحَكَاهُ الْأُسْتَاذُ
nindex.php?page=showalam&ids=11812أَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَايِينِيُّ فِي أُصُولٍ عَنْ إِجْمَاعِ الشَّافِعِيَّةِ ، وَحَكَاهُ
ابْنُ الصَّبَّاغِ فِي الْعُدَّةِ عَنْ أَكْثَرِ الشَّافِعِيَّةِ ، وَصَحَّحَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=11872الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ ،
وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ ، وَنَسَبُهُ الْقَاضِي
عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي الْإِفَادَةِ إِلَى الْجُمْهُورِ .
الْمَذْهَبُ السَّادِسُ : إِنْ كَانَ التَّخْصِيصُ بِمُتَّصِلٍ ، فَإِنْ كَانَ بِالِاسْتِثْنَاءِ أَوِ الْبَدَلِ ، جَازَ إِلَى الْوَاحِدِ ، نَحْوَ : أُكْرِمَ النَّاسُ إِلَّا الْجُهَّالَ ، وَأُكْرِمَ النَّاسُ إِلَّا تَمِيمًا ، وَإِنْ كَانَ بِالصِّفَةِ أَوِ الشَّرْطِ ، فَيَجُوزُ إِلَى اثْنَيْنِ ، نَحْوَ : أُكْرِمَ الْقَوْمُ الْفُضَلَاءُ ، أَوْ إِذَا كَانُوا فُضَلَاءَ .
وَإِنْ كَانَ التَّخْصِيصُ بِمُنْفَصِلٍ ، وَكَانَ فِي الْعَامِّ الْمَحْصُورِ الْقَلِيلِ كَقَوْلِكَ : قَتَلْتُ كُلَّ زِنْدِيقٍ ، وَكَانُوا ثَلَاثَةً أَوْ أَرْبَعَةً ، وَلَمْ تَقْتُلْ سِوَى اثْنَيْنِ ، جَازَ إِلَى اثْنَيْنِ ، وَإِنْ كَانَ الْعَامُّ غَيْرَ مَحْصُورٍ أَوْ كَانَ مَحْصُورًا كَثِيرًا ، جَازَ ، بِشَرْطِ كَوْنِ الْبَاقِي قَرِيبًا مِنْ مَدْلُولِ الْعَامِّ ، هَكَذَا ذَكَرَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=12671ابْنُ الْحَاجِبِ ، وَاخْتَارَهُ .
[ ص: 415 ] قَالَ
الْأَصْفَهَانِيُّ فِي شَرْحِ
الْمَحْصُولِ : وَلَا نَعْرِفُهُ لِغَيْرِهِ .
احْتَجَّ الْأَوَّلُونَ بِأَنَّهُ لَوْ قَالَ قَائِلٌ : قَتَلْتُ كُلَّ مَنْ فِي الْمَدِينَةِ ، وَلَمْ يَقْتُلْ إِلَّا ثَلَاثَةً ، عُدَّ لَاغِيًا مُخْطِئًا فِي كَلَامِهِ ، وَهَكَذَا لَوْ قَالَ : أَكْرَمْتُ كُلَّ الْعُلَمَاءِ ، وَلَمْ يُكْرِمْ إِلَّا ثَلَاثَةً ، أَوْ قَتَلْتُ جَمِيعَ بَنِي تَمِيمٍ ، وَلَمْ يَقْتُلْ إِلَّا ثَلَاثَةً .
وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِجَوَازِ التَّخْصِيصِ إِلَى اثْنَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ : بِأَنَّ ذَلِكَ أَقَلُّ الْجَمْعِ عَلَى الْخِلَافِ الْمُتَقَدِّمِ .
وَيُجَابُ : بِأَنَّ ذَلِكَ خَارِجٌ عَنْ مَحَلِّ النِّزَاعِ ، فَإِنَّ الْكَلَامَ إِنَّمَا هُوَ فِي الْعَامِّ ، وَالْجَمْعُ لَيْسَ بِعَامٍّ ، وَلَا تَلَازُمَ بَيْنَهُمَا .
وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِجَوَازِ التَّخْصِيصِ إِلَى وَاحِدٍ : بِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ : أُكْرِمَ النَّاسُ إِلَّا الْجُهَّالَ ، وَإِنْ كَانَ الْعَالِمُ وَاحِدًا .
وَيُجَابُ عَنْهُ : بِأَنَّ مَحَلَّ النِّزَاعِ هُوَ أَنْ يَكُونَ مَدْلُولُ الْعَامِّ مَوْجُودًا فِي الْخَارِجِ ، وَمِثْلُ هَذِهِ الصُّورَةِ اتِّفَاقِيَّةٌ ، وَلَا يُعْتَبَرُ بِهَا ، فَالنَّاسُ هَاهُنَا لَيْسَ بِعَامٍّ ، بَلْ هُوَ لِلْمَعْهُودِ ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=173الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ فَإِنَّ الْمُرَادَ بِالنَّاسِ الْمَعْهُودُ ، وَهُوَ
نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ ، وَالْمَعْهُودُ لَيْسَ بِعَامٍّ .
وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا : بِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ الْقَائِلُ : أَكَلْتُ الْخُبْزَ ، وَشَرِبْتُ الْمَاءَ ، وَالْمُرَادُ الشَّيْءُ الْيَسِيرُ مِمَّا يَتَنَاوَلُهُ الْمَاءُ وَالْخُبْزُ .
وَأُجِيبُ عَنْ ذَلِكَ : بِأَنَّهُ غَيْرُ مَحَلِّ النِّزَاعِ ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْخُبْزِ وَالْمَاءِ فِي الْمِثَالَيْنِ لَيْسَ بِعَامٍّ ، بَلْ هُوَ لِلْبَعْضِ الْخَارِجِيِّ الْمُطَابِقِ لِلْمَعْهُودِ الذِّهْنِيِّ ، وَهُوَ الْخَبْزُ وَالْمَاءُ الْمُقَرَّرُ فِي الذِّهْنِ أَنَّهُ يُؤْكَلُ وَيُشْرَبُ ، وَهُوَ مِقْدَارٌ مَعْلُومٌ .
وَالَّذِي يَنْبَغِي اعْتِمَادُهُ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَبْقَى بَعْدَ التَّخْصِيصِ مَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَدْلُولًا لِلْعَامِّ ، وَلَوْ فِي بَعْضِ الْحَالَاتِ ، وَعَلَى بَعْضِ التَّقَادِيرِ ، كَمَا تَشْهَدُ لِذَلِكَ الِاسْتِعْمَالَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ ، وَالْكَلِمَاتُ الْعَرَبِيَّةُ ، وَلَا وَجْهَ لِتَقْيِيدِ الْبَاقِي بِكَوْنِهِ أَكْثَرَ مِمَّا قَدْ
[ ص: 416 ] خُصِّصَ ، أَوْ بِكَوْنِهِ أَقْرَبَ إِلَى مَدْلُولِ الْعَامِّ ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأَكْثَرِيَّةَ وَالْأَقْرَبِيَّةَ لَا تَقْتَضِيَانِ كَوْنَ ذَلِكَ الْأَكْثَرِ وَالْأَقْرَبِ هُمَا مَدْلُولَا الْعَامِّ عَلَى التَّمَامِ ، فَإِنَّهُ بِمُجَرَّدِ إِخْرَاجِ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْعَامِّ يَصِيرُ الْعَامُّ غَيْرَ شَامِلٍ لِأَفْرَادِهِ ، كَمَا يَصِيرُ غَيْرَ شَامِلٍ لَهَا عِنْدَ إِخْرَاجِ أَكْثَرِهَا ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ هَاهُنَا : إِنَّ الْأَكْثَرَ فِي حُكْمِ الْكُلِّ ; لِأَنَّ النِّزَاعَ فِي مَدْلُولِ اللَّفْظِ ، وَلِهَذَا يَأْتِي الْخِلَافُ السَّابِقُ فِي كَوْنِ دَلَالَةِ الْعَامِّ عَلَى مَا بَقِيَ بَعْدَ التَّخْصِيصِ مِنْ بَابِ الْحَقِيقَةِ أَوِ الْمَجَازِ ، وَلَوْ كَانَ الْمُخْرَجُ فَرْدًا وَاحِدًا .
وَإِذَا عَرَفْتَ أَنَّهُ لَا وَجْهَ لِلتَّقْيِيدِ بِكَوْنِ الْبَاقِي بَعْدَ التَّخْصِيصِ أَكْثَرَ أَوْ أَقْرَبَ إِلَى مَدْلُولِ الْعَامِّ ، عَرَفْتَ أَيْضًا أَنَّهُ لَا وَجْهَ لِلتَّقْيِيدِ بِكَوْنِهِ جَمْعًا ; لِأَنَّ النِّزَاعَ فِي مَعْنَى الْعُمُومِ ، لَا فِي مَعْنَى الْجَمْعِ ، وَلَا وَجْهَ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ كَوْنِ الصِّيغَةِ مُفْرِدَةً لَفْظًا كَمَنَ ، وَمَا ، وَالْمُعَرَّفِ بِاللَّامِ ، وَبَيْنَ كَوْنِهَا غَيْرَ مُفْرَدَةٍ ، فَإِنَّ هَذِهِ الصِّيَغَ الَّتِي أَلْفَاظُهَا مُفْرِدَةٌ لَا خِلَافَ فِي كَوْنِ مَعَانِيهَا مُتَعَدِّدَةً ، وَالِاعْتِبَارُ إِنَّمَا هُوَ بِالْمَعَانِي لَا بِمُجَرَّدِ الْأَلْفَاظِ .