[ ص: 481 ] وإذا كان جنس من يخبر قد يكون كاذبا ، وقد يكون صادقا ، فقد علم أنه ليس كل واحد أخبر بخبر يصدق مطلقا ، ولا يكذب مطلقا ، فلم يقل أحد من العقلاء أن كل خبر واحد أو خبر كل واحد يكون صدقا أو يفيد العلم ، ولا أنه يكون كذبا ، بل الناس يعلمون أن
nindex.php?page=treesubj&link=21465خبر الواحد قد يقوم دليل على صدقه فيعلم أنه صدق وإن كان خبر واحد ، وقد يقوم الدليل على كذبه فيعلم أنه كذب ، وإن أخبر به ألوف إذا كان خبرهم على غير علم منهم بما أخبروا به ، أو عن تواطئ منهم على الكذب ، مثل إخبار أهل الاعتقادات الباطلة بالباطل الذي يعتقدونه ، وأما إذا أخبروا عن علم منهم بما أخبروا به فهؤلاء صادقون في نفس الأمر ، ويعلم صدقهم تارة بتوافق أخبارهم من غير مواطأة ، ولو كانا اثنين ، فإن الاثنين إذا أخبرا بخبر طويل أسنداه إلى علم ، وقد علم أنهما لم يتواطأا عليه ، ولا هو مما قد يتفق في العادة تماثلهما فيه في الكذب أو الغلط علم أنه صدق .
[ ص: 482 ] nindex.php?page=treesubj&link=21424_21432وقد يعلم صدق الخبر الواحد بأنواع من الدلائل تدل على صدقه ، ويعلم صدق خبر الواحد بقرائن تقترن بخبره يعلم بها صدقه ، وتلك الدلائل والقرائن قد تكون صفات في المخبر ، من علمه ، ودينه ، وتحريه الصدق ، بحيث يعلم قطعا أنه لا يتعمد الكذب ، كما يعلم علماء أهل الحديث قطعا أن
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر ، nindex.php?page=showalam&ids=25وعائشة ، وأبا سعيد ، وجابر بن عبد الله ، وأمثالهم ، لم يكونوا يتعمدون الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فضلا عن
nindex.php?page=showalam&ids=1أبي بكر ، nindex.php?page=showalam&ids=2وعمر ، nindex.php?page=showalam&ids=7وعثمان ، nindex.php?page=showalam&ids=8وعلي ، nindex.php?page=showalam&ids=10وابن مسعود ، nindex.php?page=showalam&ids=34وأبي بن كعب ، nindex.php?page=showalam&ids=32ومعاذ بن جبل ، وأمثالهم ، بل يعلمون علما يقينيا أن
nindex.php?page=showalam&ids=16004الثوري ، nindex.php?page=showalam&ids=16867ومالكا ، وشعبة ، ويحيى بن سعيد ، وعبد الرحمن بن مهدي ، nindex.php?page=showalam&ids=12251وأحمد بن حنبل ، nindex.php?page=showalam&ids=12070والبخاري ، وأبا زرعة ، وأبا داود ، وأمثالهم ، لا يتعمدون الكذب في الحديث .
وقد تكون الدلائل صفات في المخبر به مختصة بذلك الخبر أو بنوعه يعلم بها أن ذلك المخبر لا يكذب مثل ذلك الخبر ، كحاجب
[ ص: 483 ] الأمير إذا قال بحضرته لعسكره : إن الأمير قد أذن لكم في الانصراف ، أو أمركم أن تركبوا غدا ، أو أمر عليكم فلانا ، ونحو ذلك ، فإنهم يعلمون أنه لا يتعمد الكذب في مثل هذا وإن لم يكن بحضرته ، فكيف إذا كان بحضرته ، وإن كانوا قد يكذبونه في غير هذا .
وقد تكون الدلائل سماع من شاركه في العلم بذلك الخبر ، وإقراره عليه ، فإن العادة كما قد تمنع التواطؤ على الكذب فإنها قد تمنع التواطؤ على الكتمان وإقرار الكذب والسكوت ، وعن إنكاره ، فما توافرت الهمم والدواعي على ذكره والخبر به يمتنع أن يتواطأ أهل التواتر على كتمانه ، كما يمتنع في العادة أن تحدث حادثة عظيمة تتوفر الهمم والدواعي على نقلها في الحج أو الجامع أو العسكر ، وحيث توجب العادة نقل الحاضرين لما عاينوه ثم لا ينقل ذلك أحد .
nindex.php?page=treesubj&link=21449وإقرار الكذب ، والسكوت على رده أعظم امتناعا في العادة من الكتمان فإن الإنسان في العادة قد تدعوه نفسه إلى أن يسكت على ما رآه وسمعه فلا يخبر به ، ولا تدعوه نفسه إلى أن يكذب عليه ، ويخبر عنه بما يعلم أنه كذب عليه فيقره ولا ينكره إذ كانت عادة الناس إلى
[ ص: 484 ] تكذيب مثل هذا أبلغ من عادتهم بالإخبار به ، وكذلك إذا كذب في قصة ، وبلغ ذلك من شاهدها ، فتوفر الهمم على تكذيب هذا أعظم من توفرها على إخبارهم بما وقع ابتداء ، فإذا كانت من القضايا التي يمتنع السكوت عن إظهارها ، فالسكوت عن تكذيب الكاذب فيها أشد امتناعا ، وقد تكون الدلائل صفات فيه تقترن بخبره ، فإن الإنسان قد يرى حمرة وجهه فيميز بين حمرته من الخجل والحياء وبين حمرته من الحمى وزيادة الدم ، وبين حمرته من الحمام ، وبين حمرته من الغضب ، وكذلك يميز بين صفرته من الفزع ، والوجل ، وبين صفرته من الحزن ، والخوف ، وبين صفرته من المرض ، فكما أن سحنته ، ووجهه يعرف بها أحوال بدنه الطبيعية من أمراضه المختلفة حتى إن الأطباء الحذاق يعلمون حال المريض من سحنته فلا يحتاجون مع ذلك إلى نبض وقارورة ، وكذلك تعرف أحواله النفسانية هل هو فرح مسرور أو محزون مكروب ؟ ويعلم هل هو محب صديق مريد للخير
[ ص: 485 ] أو هو مبغض عدو مريد للشر ؟ كما قيل :
تحدثني العينان ما القلب كاتم
والعين تعرف من عيني محدثها إن كان من حزبها أو من أعاديها
، وكما قيل :
،
ولا خير في الشحناء والنظر الشزر
[ ص: 486 ] ثم إذا تكلم مع ذلك دل كلامه على أبلغ مما يدل عليه سيما وجهه ، كما قال تعالى عن المنافقين :
nindex.php?page=tafseer&surano=47&ayano=30ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول
فأخبر أنه لا بد أن يعرف المنافقين في لحن القول ، وأن معرفتهم بالسيما معلقة بالمشيئة ،
nindex.php?page=treesubj&link=28842والمنافق الكاذب يقول بلسانه ما ليس في قلبه ، فبين أنه في لحن قوله يعلم أنه كاذب ، وقال في حق المؤمنين :
nindex.php?page=tafseer&surano=48&ayano=29سيماهم في وجوههم من أثر السجود
وقال في حق الكافر :
nindex.php?page=tafseer&surano=68&ayano=13عتل بعد ذلك زنيم
أي له زنمة من الشر أي علامة يعرف بها .
[ ص: 487 ] وقد روي عن
nindex.php?page=showalam&ids=7عثمان بن عفان رضي الله عنه " ما أسر أحد سريرة إلا أبداها الله على صفحات وجهه ، وفلتات لسانه "
وقد بسطنا الكلام على هذه في مسألة الإيمان ، وبينا أن ما يقوم بالقلب من تصديق ، وحب الله ورسوله ، وتعظيم ، لا بد أن يظهر على الجوارح ، وكذلك بالعكس ، ولهذا يستدل بانتفاء اللازم الظاهر على انتفاء الملزوم الباطن ، كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=650050 " ألا إن في الجسد مضغة إذا [ ص: 488 ] صلحت صلح لها سائر الجسد ، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد ، ألا وهي القلب " . وكما قال
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب رضي الله عنه لمن رآه يعبث في الصلاة : " لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه " . ومن هذا الباب قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=58&ayano=22لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=81ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=46ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة
فإن
[ ص: 489 ] الإرادة التي في القلب مع القدرة توجب فعل المراد ، والسفر في غزوة بعيدة لا يكون إلا بعدة ، ومن هذا الباب أن
nindex.php?page=showalam&ids=7عثمان قال
nindex.php?page=showalam&ids=2لعمر لما شاوره في المرأة التي أقرت بالزنا : " إني أراها تستهل به استهلال من لا يعرف أنه حرام " فإنه لما رآها تجهر بما فعلته ، وتحكيه من غير اكتراث ، تبين له أنها لم تعتقد تحريمه ، وأنه يذم ، وتعاقب عليه ، ووافقه
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر nindex.php?page=showalam&ids=8وعلي وغيرهما على ذلك .
والرجل الصادق البار يظهر على وجهه من نور صدقه ، وبهجة وجهه سيما يعرف بها ، وكذلك الكاذب الفاجر ، وكلما طال عمر الإنسان ظهر هذا الأثر فيه ، حتى إن الرجل يكون في صغره جميل الوجه ، فإذا كان من أهل الفجور مصرا على ذلك يظهر عليه في آخر عمره من قبح الوجه ما أثره باطنه ، وبالعكس .
وقد روي عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس أنه قال : إن للحسنة لنورا في القلب ، وضياء في الوجه ، وقوة في البدن ، وسعة في الرزق ، ومحبة في قلوب الخلق ، وإن للسيئة لظلمة في القلب ، وسوادا في الوجه ، ووهنا في البدن ، وبغضة في قلوب الخلق .
وقد يكون الرجل ممن لا يتعمد الكذب لكن يعتقد اعتقادات
[ ص: 490 ] باطلة كاذبة في الله أو في رسله أو في دينه أو عباده الصالحين ، وتكون له زهادة ، وعبادة ، واجتهاد في ذلك فيؤثر ذلك الكذب الذي ظنه صدقا وتوابعه في باطنه ، ويظهر ذلك على وجهه فيعلوه من القترة والسواد ما يناسب حاله ، كما قال بعض السلف :
nindex.php?page=treesubj&link=20455لو ادهن صاحب البدعة كل يوم بدهان ، إن سواد البدعة لفي وجهه "
وهذه الأمور تظهر يوم القيامة ظهورا تاما . قال تعالى :
ويوم القيامة ترى
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=60الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة أليس في جهنم مثوى للمتكبرين ( 60 )
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=61وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون
وقال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=106يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ( 106 )
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=107وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون
.
[ ص: 491 ] قال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس وغيره : تبيض وجوه أهل السنة والجماعة ، وتسود وجوه أهل البدعة والفرقة .
والمقصود أن ما في القلوب من قصد الصدق والمحبة والبر ونحو ذلك قد يظهر على الوجه حتى يعلم ذلك علما ضروريا من أبلغ العلوم الضرورية ، وكذلك ما فيها من قصد الكذب والبغض والفجور وغير ذلك ، والإنسان يرافق في سفره من لم يره قط إلا تلك الساعة فلا يلبث إذا رآه مدة ، وسمع كلامه أن يعرف هل هو مأمون يطمئن إليه ؟ أو ليس كذلك ؟ وقد يشتبه عليه في أول الأمر ، وربما غلط ، لكن العادة الغالبة أنه يتبين ذلك بعد لعامة الناس .
وكذلك الجار يعرف جاره ، والمعامل يعرف معامله ، ولهذا لما شهد عند
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب رجل فزكاه آخر قال : هل أنت جاره الأدنى تعرف مساءه وصباحه ؟ قال : لا . قال : هل عاملته في الدرهم والدينار الذين تمتحن بهما أمانات الناس ؟ قال : لا . قال : هل رافقته في السفر الذي ينكشف فيه أخلاق الناس ؟ قال : لا . قال : فلست
[ ص: 492 ] تعرفه وروي أنه قال : لعلك رأيته يركع ركعات في المسجد . وذلك أن المنافق قد يظهر الصلاة فمن لم يخبره لا يعرف باطن أمره كما قيل :
ذئب تراه مصليا فإذا مررت به ركع
يدعو وجل دعائه ما للفريسة لا تقع ، وإذا الفريسة خيلت
ذهب التنسك والورع
فإذا كان كذلك فمن نبأه الله واصطفاه للرسالة كان قلبه من أفضل القلوب صدقا وبرا ،
nindex.php?page=treesubj&link=18984ومن افترى على الله الكذب كان قلبه من شر القلوب كذبا وفجورا كما قال
nindex.php?page=showalam&ids=10عبد الله بن مسعود : إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب
محمد خير قلوب العباد فاصطفاه لرسالته ، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب
محمد فوجد قلوب أصحابه خير قلوب
[ ص: 493 ] العباد فاتخذهم لصحبة نبيه ، وإقامة دينه فما رآه المؤمنون حسنا فهو عند الله حسن ، وما رآه المؤمنون سيئا فهو عند الله سيئ ، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=10عبد الله بن مسعود : من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات فإن الحي لا يؤمن عليه الفتنة . أولئك أصحاب
محمد أبر هذه الأمة قلوبا ، وأعمقها علما ، وأقلها تكلفا ، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه ، وإقامة دينه ، فاعرفوا لهم حقهم ، وتمسكوا بهديهم ، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم .
وإذا كان من أعظم بل أعظم أهل زمانه صدقا وبرا فإنه لا بد أن يظهر على فلتات لسانه وصفحات وجهه ما يناسب ذلك ، كما أن الكاذب الكافر لا بد أن يظهر على وجهه وفلتات لسانه ما يناسب ذلك ، وهذا يكون تارة حين إخباره بما يخبر به ، وتارة موجودا في غير تلك الحال ، فإن الرجل إذا جاء ، وقال : إن السلطان أو الأمير أو الحاكم أو الشيخ أو فلانا أرسلني إليكم بكذا ، فإنه قد يقترن بنفس إخباره من كيفيته وحاله ما يعلم به أنه صادق أو كاذب ، وإن كان معروفا قبل ذلك
[ ص: 494 ] بالصدق أو الكذب كان ذلك دلالة أخرى ، وقد يكون ممن يكذب ، ولكن يعرف أنه صادق في ذلك الخبر ، دع من يستمر على خبر واحد بضعا وعشرين سنة مع أصناف الناس ، واختلاف أحوالهم .
ومما ينبغي أن يعلم أن الناس تختلف أحوالهم في المعرفة ، والخبرة ، والنظر ، والاستدلال في جميع المعارف ، فقد يتفطن الإنسان لدلالة لا يتفطن لها غيره ، وقد يتبين له ما يخفى على غيره ، حتى
nindex.php?page=treesubj&link=29638الأنبياء يتفاضلون كما قال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=78وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=79ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما والمقصود أن العلم بصدق الصادق ، وكذب الكاذب كغيرهما من المعلومات قد يكون ضروريا ، وقد يكون نظريا ، وهو ليس من الضروريات الكلية الأولية ، كالعلم بأن الواحد نصف الاثنين ، بل من العلم بالأمور المعينة كالعلم بحمرة الخجل ، وصفرة الوجل ، وعدل العادل ، وظلم الظالم ، ونحو ذلك مما يعرفه الخبير بذلك علما ضروريا ، وإذا كان استدلاليا فالمعرفة بالعلم لا تحصل بمجرد وجود
[ ص: 495 ] الدليل في نفسه ، بل لا بد من معرفة القلب به ، والناس متفاوتون في ذلك ، والدليل أبدا هو ما استلزم المدلول ، فكل ما كان مستلزما للشيء كان دليلا عليه ، لكن لا بد من معرفته ، ومعرفة أنه مستلزم ثم إذا حصل العلم صار ضروريا ، وقد يكون ضروريا بلا واسطة دليل معين ، وليس العلم بالمعينات كالعلم بصدق هذا وكذب هذا ، مما يحتاج فيه إلى القياس الشمولي ، فإن ذلك إنما يفيد بتوسط قضية كلية ، والمعينات قد لا يحتاج فيها إلى ذلك ، وإن كان لا بد فيها من خبرة بحال ذلك المعين .
وإذا كان القائل : إني رسول الله ، إما أن يكون من خيار الناس ، وأصدقهم ، وأبرهم ، وأفضلهم ، وإما أن يكون من شرار الناس ، وأكذبهم ، وأفجرهم ، والفرق بين هذين يكون من وجوه كثيرة لا تكاد تنضبط ، كل منها يعرف به صدق هذا وكذب هذا ، وكانت المعرفة بذلك قد تحصل عند سماع خبر هذا وخبر هذا ، ورؤية وجهه ، وسماع كلامه ، وما يلزم ذلك ويقترن به من بهجة الصدق ونوره ، ومن ظلمة الكذب وسواده وقبحه .
يتبين بذلك أن كثيرا من الناس يحصل لهم علم ضروري بأن
[ ص: 496 ] هذا النبي صادق ، وهذا المتنبي كاذب بمثل ذلك ، من قبل أن يروا خارقا للعادة .
وقول بعض المتكلمين : ما لم يكن خارقا للعادة ، لا اختصاص للنبي به ، فلا يدل . فيقال له : لفظ خرق العادة لفظ مجمل ، وإن تعين دعوى النبوة صدقا وكذبا ليس هو أمرا معتادا ، ولم يقع هذا إلا في أفراد من العالم ، وهو أقل بكثير من الإخبار بالمغيبات ، فإن هذا أكثر في الوجود من دعوى النبوة ، إذ كل نبي يخبر بالمغيبات ، وليس كل من أخبر بها كان نبيا ، وهؤلاء الذين يقولون هذا يقول أكثرهم أو كثير منهم : إن دعوى النبوة والتحدي والمعجز مجموعها هو المختص بالنبي ، وإلا فهم يقولون : إن ما كان معجزة لنبي جاز أن يظهر على يدي ولي أو ساحر ، وإنما يفرق بينهما التحدي وعدم المعارضة . ومنهم من ينكر خرق العادة أن يظهر على يد غير نبي ،
nindex.php?page=treesubj&link=28806ومنهم من لا يفرق بين الولي والساحر إلا ببر هذا وفجور هذا ، ومنهم من يطرد ذلك في النبي لا سيما متفلسفة اليونان ، فإنهم من أجهل
[ ص: 497 ] الناس بأمر النبوة ، إذ كانوا لم يأخذوها من العلم بصدق الأنبياء ، وبما جاءوا به من الآيات والبراهين والعلم بصفاتهم ، وإنما أخذوها من القياس على المنامات ، فجوزوا فيها مثل ما يجوز على النائم من الأحلام والتخيل ، وما يصيب أهل المرة السوداء مما يشبه ذلك .
وهذا هو الموجود في عامة أتباع
أرسطو ، ولكن متأخروهم
nindex.php?page=showalam&ids=13251كابن سينا ضم إلى ذلك تصرفه في هيولي العالم لما بلغه من خوارقهم الفعلية التي لم يكن يعرفها أولئك ، إذ كان علم
أرسطو هو ما كان يعلمه قومه من
اليونان ، وهم أمة أولاد
يافث لم يكن
[ ص: 498 ] فيهم ما في أولاد
سام كهود ، وصالح ، وغيرهما ، ثم أولاد
إبراهيم الخليل الذي وعده الله أن يجعل في ذريته النبوة والكتاب حتى يكون علم النبوة مشهورا فيهم ، وقد جعل الله تعالى من زمن
الخليل في ذريته النبوة والكتاب ، كما أخبر بذلك في القرآن ، وهم لم يكونوا من ذريته ، ولا كانوا خبيرين بأحوال ذريته ، وقد ذكر طائفة منهم
كمحمد بن يوسف العامري ، وصاعد بن صاعد الأندلسي أن أساطينهم خمسة
[ ص: 499 ] ثم أربعة
ابندقلس ثم
فيثاغورس ثم
سقراط ثم
أفلاطن قدموا
الشام ، واستفادوا من
بني إسرائيل ، ولهذا لم يكن من هؤلاء من قال بقدم العالم بخلاف
أرسطو قالوا : فإنه لم يقدم
الشام ، وذكر هؤلاء
كمحمد بن يوسف العامري ، وغيره أن أول من لقب بالحكمة
لقمان ، وأن
ابندقلس استفاد منه ، ومن أتباع
داود عليه السلام -
[ ص: 500 ] فإنه كان في زمن
داود ، وإذا كان هذا قول هؤلاء النظار ،
nindex.php?page=treesubj&link=28752وأهل الكلام والفلسفة ، فمجرد خرق العادة عندهم ليس وحده مستلزما للنبوة حتى يكون وحده دليلا بل لا بد أن ينضم إلى ذلك التحدي وعدم المعارضة .
ولهذا لما اختلف قول طائفة منهم
كأبي الحسن وأتباعه : هل يجوز ظهور الخارق على يد الكاذب ؟ فقيل : لا يجوز لأنه علم النبوة ، فيمتنع أن يتخلف عنه مدلوله كسائر الأدلة ، وقيل : بل يجوز ، ولكن الله لا يفعله . ثم قيل : لأنه يستلزم عجزه عن تصديق الرسول إذ لا طريق إليه إلا المعجز عندهم ، وقيل : بل هو مقدور ممكن ، ولكن نحن نعلم اضطرارا أنه لا يفعله مثل كثير مما يمكن في العادة ، ونعلم أن الله لا يفعله ، وجميع من جمع بين القولين ، وقال : مجموع ما يدل على النبوة ، وهو الخارق السالم عن المعارض يمتنع أن يكون لغير نبي بخلاف جنس الخارق ، فقيل له : هذا الامتناع إما أن يكون عاديا ، وإما أن يكون لاستلزامه العجز عن تصديق النبي ، وذلك ممتنع فإذا كان ممتنعا لاستلزامه العجز عن تصديق النبي ، وذلك ممتنع فإذا كان ممتنعا لاستلزامه أمرا ممتنعا ، وإذا كان انفلات
[ ص: 501 ] العادة ليس عندك ممتنعا فلا بد لك من ذلك الجواب ، وهو القول بأنا نعلم ضرورة أن ذلك لم يكن ، ثم إذا علمت أن هذا علم ضروري ، وأن العلم بدلالتها على الصدق أمر ضروري كالمثل الذي ضربته في إرسال الملك رسولا ، وقول رسوله : إن كنت صادقا فغير عادتك بقيامك ثم قعودك ، ففعل ذلك عقب سؤال الرسول ، فإن ذلك يوجب العلم الضروري بصدق الرسول .
وقيل لك : الملك تعلم عادته ، ويعلم أنه فعل ذلك للتصديق ، والرب عندك لم يخلق شيئا لشيء . فقلت : بل يخلق شيئا مقارنا لشيء كالعاديات ، وهذا منها . فقيل لك : العادات قد تكررت . فقلت : قد نعلم ذلك بلا تكرر ، وجعلت ذلك من باب الدلالة الوضعية كدلالة اللفظ على قصد المتكلم ، وقلت : قد نعلم قصده اضطرارا من غير سبق مواضعة ، وهذه العلوم الضرورية التي ذكرت أنه يعلم بها صدق الرسول ، وإن كانت حقا فجمهور الناس يقولون : إنك لم تقر بلوازمها من كونه يفعل لأجل كذا ، ويقولون :
nindex.php?page=treesubj&link=28752القول بأنه خلق المعجزة لقصد التصديق مع القول بأنه لا يخلق شيئا لأجل شيء تناقضا . فقلت : لا يشترط في العلم الضروري العلم بأنه يفعل كذا لأجل كذا . فقيل
[ ص: 502 ] لك : هب أنه كذلك لكن لا يحصل العلم الضروري مع العلم بما يناقضه .
والمقصود أن ما يذكره هؤلاء وأمثالهم من النظار ، بل وعامة الناس هم فيما يثبتونه من العلم والحقائق المعلومة أسد منهم وأصوب فيما ينفونه ، فإن الإنسان لما يثبته أعلم منه بما ينفيه ، وشهادته على الإثبات أقوى من شهادته على النفي ، وإن كان النفي قد يكون معلوما لكن غلط الناس فيما ينفونه ويكذبون به أكثر من غلطهم فيما يثبتونه ويصدقون به ، ولهذا قال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=39بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله
ولهذا تجد من سلك طريقا من الطرق إما في إثبات العلم بالصانع ، وإما في العلم بالنبوة أو العلم بالمعاد أو غير ذلك ، واحد يقول : لا طريق إلا هذا الطريق ، يخطئ في النفي أكثر من خطئه في الإثبات ، ومنهم هؤلاء فإنهم قد ينفون من العلم والطرق ما يعلمه غيرهم بالاضطرار ، ويثبتون ما يقولون إنه معلوم بالاضطرار ، وقد يكون غيرهم أصوب فيما يثبته منهم فيما ينفونه ، بل وفيما يثبتونه .
[ ص: 503 ] nindex.php?page=treesubj&link=28752ولهذا الذين اتفقوا على أنه لا طريق إلا المعجزات تنوعوا في وجه دلالتها فيثبت هؤلاء وجها يستدلون به ، وينفون طريق غيرهم ، وبالعكس ، فإذا قالوا ما سوى الخارق للعادة ليس يختص بالنبي فلا يدل على نبوته . قيل لهم : الدليل هو الذي يكون مستلزما للمدلول يلزم من تحققه تحقق المدلول ، ولفظ الخارق للعادة فيه إجمال كما تقدم ، وحينئذ فنفس إنباء الله للنبي ، واصطفائه لرسالته ، وإقداره على التلقي من الملك هو من خوارق العادات ، وذلك من المعجزات التي أعجز الله الخلق أن يفعلوه ، وهو مختص بالأنبياء ، وهذا الوصف أجل وأعظم قدرا من غيره من الخوارق ، والمستلزم لهذا الخارق لا يكون إلا خارقا ، وهو الدليل ، إذ يلزم من ثبوت الملزوم ثبوت اللازم ، ومن انتفاء اللازم انتفاء الملزوم ، والمعتاد الذي يوجد بدون النبوة لا يكون دليلا .
[ ص: 481 ] وَإِذَا كَانَ جِنْسُ مَنْ يُخْبِرُ قَدْ يَكُونُ كَاذِبًا ، وَقَدْ يَكُونُ صَادِقًا ، فَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ وَاحِدٍ أَخْبَرَ بِخَبَرٍ يَصْدُقُ مُطْلَقًا ، وَلَا يَكْذِبُ مُطْلَقًا ، فَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنَ الْعُقَلَاءِ أَنَّ كُلَّ خَبَرِ وَاحِدٍ أَوْ خَبَرَ كُلِّ وَاحِدٍ يَكُونُ صِدْقًا أَوْ يُفِيدُ الْعِلْمَ ، وَلَا أَنَّهُ يَكُونُ كَذِبًا ، بَلِ النَّاسُ يَعْلَمُونَ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=21465خَبَرَ الْوَاحِدِ قَدْ يَقُومُ دَلِيلٌ عَلَى صِدْقِهِ فَيُعْلَمُ أَنَّهُ صِدْقٌ وَإِنْ كَانَ خَبَرَ وَاحِدٍ ، وَقَدْ يَقُومُ الدَّلِيلُ عَلَى كَذِبِهِ فَيُعْلَمُ أَنَّهُ كَذِبٌ ، وَإِنْ أَخْبَرَ بِهِ أُلُوفٌ إِذَا كَانَ خَبَرُهُمْ عَلَى غَيْرِ عِلْمٍ مِنْهُمْ بِمَا أَخْبَرُوا بِهِ ، أَوْ عَنْ تَوَاطُئٍ مِنْهُمْ عَلَى الْكَذِبِ ، مِثْلَ إِخْبَارِ أَهْلِ الِاعْتِقَادَاتِ الْبَاطِلَةِ بِالْبَاطِلِ الَّذِي يَعْتَقِدُونَهُ ، وَأَمَّا إِذَا أَخْبَرُوا عَنْ عِلْمٍ مِنْهُمْ بِمَا أَخْبَرُوا بِهِ فَهَؤُلَاءِ صَادِقُونَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ، وَيُعْلَمُ صِدْقُهُمْ تَارَةً بِتَوَافُقِ أَخْبَارِهِمْ مِنْ غَيْرِ مُوَاطَأَةٍ ، وَلَوْ كَانَا اثْنَيْنِ ، فَإِنَّ الِاثْنَيْنِ إِذَا أَخْبَرَا بِخَبَرٍ طَوِيلٍ أَسْنَدَاهُ إِلَى عِلْمٍ ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُمَا لَمْ يَتَوَاطَأَا عَلَيْهِ ، وَلَا هُوَ مِمَّا قَدْ يَتَّفِقُ فِي الْعَادَةِ تَمَاثُلُهُمَا فِيهِ فِي الْكَذِبِ أَوِ الْغَلَطِ عُلِمَ أَنَّهُ صِدْقٌ .
[ ص: 482 ] nindex.php?page=treesubj&link=21424_21432وَقَدْ يُعْلَمُ صِدْقُ الْخَبَرِ الْوَاحِدِ بِأَنْوَاعٍ مِنَ الدَّلَائِلِ تَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِ ، وَيُعْلَمُ صِدْقُ خَبَرِ الْوَاحِدِ بِقَرَائِنَ تَقْتَرِنُ بِخَبَرِهِ يُعْلَمُ بِهَا صِدْقُهُ ، وَتِلْكَ الدَّلَائِلُ وَالْقَرَائِنُ قَدْ تَكُونُ صِفَاتٍ فِي الْمُخْبِرِ ، مِنْ عِلْمِهِ ، وَدِينِهِ ، وَتَحَرِّيهِ الصِّدْقَ ، بِحَيْثُ يُعْلَمُ قَطْعًا أَنَّهُ لَا يَتَعَمَّدُ الْكَذِبَ ، كَمَا يَعْلَمُ عُلَمَاءُ أَهْلِ الْحَدِيثِ قَطْعًا أَنَّ
nindex.php?page=showalam&ids=12ابْنَ عُمَرَ ، nindex.php?page=showalam&ids=25وَعَائِشَةَ ، وَأَبَا سَعِيدٍ ، وَجَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ ، وَأَمْثَالَهُمْ ، لَمْ يَكُونُوا يَتَعَمَّدُونَ الْكَذِبَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضْلًا عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=1أَبِي بَكْرٍ ، nindex.php?page=showalam&ids=2وَعُمَرَ ، nindex.php?page=showalam&ids=7وَعُثْمَانَ ، nindex.php?page=showalam&ids=8وَعَلِيٍّ ، nindex.php?page=showalam&ids=10وَابْنِ مَسْعُودٍ ، nindex.php?page=showalam&ids=34وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ ، nindex.php?page=showalam&ids=32وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ ، وَأَمْثَالِهِمْ ، بَلْ يَعْلَمُونَ عِلْمًا يَقِينِيًّا أَنَّ
nindex.php?page=showalam&ids=16004الثَّوْرِيَّ ، nindex.php?page=showalam&ids=16867وَمَالِكًا ، وَشُعْبَةَ ، وَيَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ ، وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مَهْدِيٍّ ، nindex.php?page=showalam&ids=12251وَأَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ ، nindex.php?page=showalam&ids=12070وَالْبُخَارِيَّ ، وَأَبَا زُرْعَةَ ، وَأَبَا دَاوُدَ ، وَأَمْثَالَهُمْ ، لَا يَتَعَمَّدُونَ الْكَذِبَ فِي الْحَدِيثِ .
وَقَدْ تَكُونُ الدَّلَائِلُ صِفَاتٍ فِي الْمُخْبَرِ بِهِ مُخْتَصَّةً بِذَلِكَ الْخَبَرِ أَوْ بِنَوْعِهِ يُعْلَمُ بِهَا أَنَّ ذَلِكَ الْمُخْبِرَ لَا يَكْذِبُ مِثْلَ ذَلِكَ الْخَبَرِ ، كَحَاجِبِ
[ ص: 483 ] الْأَمِيرِ إِذَا قَالَ بِحَضْرَتِهِ لِعَسْكَرِهِ : إِنَّ الْأَمِيرَ قَدْ أَذِنَ لَكُمْ فِي الِانْصِرَافِ ، أَوْ أَمَرَكُمْ أَنْ تَرْكَبُوا غَدًا ، أَوْ أَمَّرَ عَلَيْكُمْ فُلَانًا ، وَنَحْوَ ذَلِكَ ، فَإِنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا يَتَعَمَّدُ الْكَذِبَ فِي مِثْلِ هَذَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِحَضْرَتِهِ ، فَكَيْفَ إِذَا كَانَ بِحَضْرَتِهِ ، وَإِنْ كَانُوا قَدْ يُكَذِّبُونَهُ فِي غَيْرِ هَذَا .
وَقَدْ تَكُونُ الدَّلَائِلُ سَمَاعَ مَنْ شَارَكَهُ فِي الْعِلْمِ بِذَلِكَ الْخَبَرِ ، وَإِقْرَارَهُ عَلَيْهِ ، فَإِنَّ الْعَادَةَ كَمَا قَدْ تَمْنَعُ التَّوَاطُؤَ عَلَى الْكَذِبِ فَإِنَّهَا قَدْ تَمْنَعُ التَّوَاطُؤَ عَلَى الْكِتْمَانِ وَإِقْرَارِ الْكَذِبِ وَالسُّكُوتِ ، وَعَنْ إِنْكَارِهِ ، فَمَا تَوَافَرَتِ الْهِمَمُ وَالدَّوَاعِي عَلَى ذِكْرِهِ وَالْخَبَرِ بِهِ يَمْتَنِعُ أَنْ يَتَوَاطَأَ أَهْلُ التَّوَاتُرِ عَلَى كِتْمَانِهِ ، كَمَا يَمْتَنِعُ فِي الْعَادَةِ أَنْ تَحْدُثَ حَادِثَةٌ عَظِيمَةٌ تَتَوَفَّرُ الْهِمَمُ وَالدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهَا فِي الْحَجِّ أَوِ الْجَامِعِ أَوِ الْعَسْكَرِ ، وَحَيْثُ تُوجِبُ الْعَادَةُ نَقْلَ الْحَاضِرِينَ لِمَا عَايَنُوهُ ثُمَّ لَا يَنْقُلُ ذَلِكَ أَحَدٌ .
nindex.php?page=treesubj&link=21449وَإِقْرَارُ الْكَذِبِ ، وَالسُّكُوتُ عَلَى رَدِّهِ أَعْظَمُ امْتِنَاعًا فِي الْعَادَةِ مِنَ الْكِتْمَانِ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ فِي الْعَادَةِ قَدْ تَدْعُوهُ نَفْسُهُ إِلَى أَنْ يَسْكُتَ عَلَى مَا رَآهُ وَسَمِعَهُ فَلَا يُخْبِرُ بِهِ ، وَلَا تَدْعُوهُ نَفْسُهُ إِلَى أَنْ يَكْذِبَ عَلَيْهِ ، وَيُخْبِرَ عَنْهُ بِمَا يَعْلَمُ أَنَّهُ كَذَبَ عَلَيْهِ فَيُقِرَّهُ وَلَا يُنْكِرَهُ إِذْ كَانَتْ عَادَةُ النَّاسِ إِلَى
[ ص: 484 ] تَكْذِيبِ مِثْلِ هَذَا أَبْلَغَ مِنْ عَادَتِهِمْ بِالْإِخْبَارِ بِهِ ، وَكَذَلِكَ إِذَا كَذَبَ فِي قِصَّةٍ ، وَبَلَغَ ذَلِكَ مَنْ شَاهَدَهَا ، فَتَوَفُّرُ الْهِمَمِ عَلَى تَكْذِيبِ هَذَا أَعْظَمُ مِنْ تُوَفُّرِهَا عَلَى إِخْبَارِهِمْ بِمَا وَقَعَ ابْتِدَاءً ، فَإِذَا كَانَتْ مِنَ الْقَضَايَا الَّتِي يَمْتَنِعُ السُّكُوتُ عَنْ إِظْهَارِهَا ، فَالسُّكُوتُ عَنْ تَكْذِيبِ الْكَاذِبِ فِيهَا أَشَدُّ امْتِنَاعًا ، وَقَدْ تَكُونُ الدَّلَائِلُ صِفَاتٍ فِيهِ تَقْتَرِنُ بِخَبَرِهِ ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَرَى حُمْرَةَ وَجْهِهِ فَيُمَيِّزُ بَيْنَ حُمْرَتِهِ مِنَ الْخَجَلِ وَالْحَيَاءِ وَبَيْنَ حُمْرَتِهِ مِنَ الْحُمَّى وَزِيَادَةِ الدَّمِ ، وَبَيْنَ حُمْرَتِهِ مِنَ الْحَمَّامِ ، وَبَيْنَ حُمْرَتِهِ مِنَ الْغَضَبِ ، وَكَذَلِكَ يُمَيِّزُ بَيْنَ صُفْرَتِهِ مِنَ الْفَزَعِ ، وَالْوَجَلِ ، وَبَيْنَ صُفْرَتِهِ مِنَ الْحُزْنِ ، وَالْخَوْفِ ، وَبَيْنَ صُفْرَتِهِ مِنَ الْمَرَضِ ، فَكَمَا أَنَّ سَحْنَتَهُ ، وَوَجْهَهُ يَعْرِفُ بِهَا أَحْوَالَ بَدَنِهِ الطَّبِيعِيَّةَ مِنْ أَمْرَاضِهِ الْمُخْتَلِفَةِ حَتَّى إِنَّ الْأَطِبَّاءَ الْحُذَّاقَ يَعْلَمُونَ حَالَ الْمَرِيضِ مِنْ سَحْنَتِهِ فَلَا يَحْتَاجُونَ مَعَ ذَلِكَ إِلَى نَبْضٍ وَقَارُورَةٍ ، وَكَذَلِكَ تَعْرِفُ أَحْوَالَهُ النَّفْسَانِيَّةَ هَلْ هُوَ فَرِحٌ مَسْرُورٌ أَوْ مَحْزُونٌ مَكْرُوبٌ ؟ وَيَعْلَمُ هَلْ هُوَ مُحِبٌّ صَدِيقٌ مُرِيدٌ لِلْخَيْرِ
[ ص: 485 ] أَوْ هُوَ مُبْغِضٌ عَدُوٌّ مُرِيدٌ لِلشَّرِّ ؟ كَمَا قِيلَ :
تُحَدِّثُنِي الْعَيْنَانِ مَا الْقَلْبُ كَاتِمٌ
وَالْعَيْنُ تَعْرِفُ مِنْ عَيْنَيْ مُحَدِّثِهَا إِنْ كَانَ مِنْ حِزْبِهَا أَوْ مِنْ أَعَادِيهَا
، وَكَمَا قِيلَ :
،
وَلَا خَيْرَ فِي الشَّحْنَاءِ وَالنَّظَرِ الشَّزْرِ
[ ص: 486 ] ثُمَّ إِذَا تَكَلَّمَ مَعَ ذَلِكَ دَلَّ كَلَامُهُ عَلَى أَبْلَغَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ سِيمَا وَجْهِهِ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنِ الْمُنَافِقِينَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=47&ayano=30وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ
فَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَعْرِفَ الْمُنَافِقِينَ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ ، وَأَنَّ مَعْرِفَتَهُمْ بِالسِّيمَا مُعَلَّقَةٌ بِالْمَشِيئَةِ ،
nindex.php?page=treesubj&link=28842وَالْمُنَافِقُ الْكَاذِبُ يَقُولُ بِلِسَانِهِ مَا لَيْسَ فِي قَلْبِهِ ، فَبَيَّنَ أَنَّهُ فِي لَحْنِ قَوْلِهِ يُعْلَمُ أَنَّهُ كَاذِبٌ ، وَقَالَ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=48&ayano=29سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ
وَقَالَ فِي حَقِّ الْكَافِرِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=68&ayano=13عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ
أَيْ لَهُ زَنَمَةٌ مِنَ الشَّرِّ أَيْ عَلَامَةٌ يُعْرَفُ بِهَا .
[ ص: 487 ] وَقَدْ رُوِيَ عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=7عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " مَا أَسَرَّ أَحَدٌ سَرِيرَةً إِلَّا أَبْدَاهَا اللَّهُ عَلَى صَفَحَاتِ وَجْهِهِ ، وَفَلَتَاتِ لِسَانِهِ "
وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَذِهِ فِي مَسْأَلَةِ الْإِيمَانِ ، وَبَيَّنَّا أَنَّ مَا يَقُومُ بِالْقَلْبِ مِنْ تَصْدِيقٍ ، وَحُبِّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ، وَتَعْظِيمٍ ، لَا بُدَّ أَنْ يَظْهَرَ عَلَى الْجَوَارِحِ ، وَكَذَلِكَ بِالْعَكْسِ ، وَلِهَذَا يُسْتَدَلُّ بِانْتِفَاءِ اللَّازِمِ الظَّاهِرِ عَلَى انْتِفَاءِ الْمَلْزُومِ الْبَاطِنِ ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=650050 " أَلَا إِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا [ ص: 488 ] صَلَحَتْ صَلَحَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ " . وَكَمَا قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=2عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِمَنْ رَآهُ يَعْبَثُ فِي الصَّلَاةِ : " لَوْ خَشَعَ قَلْبُ هَذَا لَخَشَعَتْ جَوَارِحُهُ " . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=58&ayano=22لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
وَقَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=81وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ
وَقَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=46وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً
فَإِنَّ
[ ص: 489 ] الْإِرَادَةَ الَّتِي فِي الْقَلْبِ مَعَ الْقُدْرَةِ تُوجِبُ فِعْلَ الْمُرَادِ ، وَالسَّفَرَ فِي غَزْوَةٍ بَعِيدَةٍ لَا يَكُونُ إِلَّا بِعُدَّةٍ ، وَمِنْ هَذَا الْبَابِ أَنَّ
nindex.php?page=showalam&ids=7عُثْمَانَ قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=2لِعُمَرَ لَمَّا شَاوَرَهُ فِي الْمَرْأَةِ الَّتِي أَقَرَّتْ بِالزِّنَا : " إِنِّي أُرَاهَا تَسْتَهِلُّ بِهِ اسْتِهْلَالَ مَنْ لَا يَعْرِفُ أَنَّهُ حَرَامٌ " فَإِنَّهُ لَمَّا رَآهَا تَجْهَرُ بِمَا فَعَلَتْهُ ، وَتَحْكِيهِ مِنْ غَيْرِ اكْتِرَاثٍ ، تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهَا لَمْ تَعْتَقِدْ تَحْرِيمَهُ ، وَأَنَّهُ يُذَمُّ ، وَتُعَاقَبُ عَلَيْهِ ، وَوَافَقَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=2عُمَرُ nindex.php?page=showalam&ids=8وَعَلِيٌّ وَغَيْرُهُمَا عَلَى ذَلِكَ .
وَالرَّجُلُ الصَّادِقُ الْبَارُّ يَظْهَرُ عَلَى وَجْهِهِ مِنْ نُورِ صِدْقِهِ ، وَبَهْجَةِ وَجْهِهِ سِيمَا يُعْرَفُ بِهَا ، وَكَذَلِكَ الْكَاذِبُ الْفَاجِرُ ، وَكُلَّمَا طَالَ عُمُرُ الْإِنْسَانِ ظَهَرَ هَذَا الْأَثَرُ فِيهِ ، حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ يَكُونُ فِي صِغَرِهِ جَمِيلَ الْوَجْهِ ، فَإِذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْفُجُورِ مُصِرًّا عَلَى ذَلِكَ يَظْهَرُ عَلَيْهِ فِي آخِرِ عُمُرِهِ مِنْ قُبْحِ الْوَجْهِ مَا أَثَّرَهُ بَاطِنُهُ ، وَبِالْعَكْسِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : إِنَّ لِلْحَسَنَةِ لَنُورًا فِي الْقَلْبِ ، وَضِيَاءً فِي الْوَجْهِ ، وَقُوَّةً فِي الْبَدَنِ ، وَسَعَةً فِي الرِّزْقِ ، وَمَحَبَّةً فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ ، وَإِنَّ لِلسَّيِّئَةِ لَظُلْمَةً فِي الْقَلْبِ ، وَسَوَادًا فِي الْوَجْهِ ، وَوَهْنًا فِي الْبَدَنِ ، وَبَغْضَةً فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ .
وَقَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ مِمَّنْ لَا يَتَعَمَّدُ الْكَذِبَ لَكِنْ يَعْتَقِدُ اعْتِقَادَاتٍ
[ ص: 490 ] بَاطِلَةً كَاذِبَةً فِي اللَّهِ أَوْ فِي رُسُلِهِ أَوْ فِي دِينِهِ أَوْ عِبَادِهِ الصَّالِحِينَ ، وَتَكُونُ لَهُ زَهَادَةٌ ، وَعِبَادَةٌ ، وَاجْتِهَادٌ فِي ذَلِكَ فَيُؤَثِّرُ ذَلِكَ الْكَذِبُ الَّذِي ظَنَّهُ صِدْقًا وَتَوَابِعُهُ فِي بَاطِنِهِ ، وَيَظْهَرُ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِهِ فَيَعْلُوهُ مِنَ الْقَتَرَةِ وَالسَّوَادِ مَا يُنَاسِبُ حَالَهُ ، كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ :
nindex.php?page=treesubj&link=20455لَوِ ادَّهَنَ صَاحِبُ الْبِدْعَةِ كُلَّ يَوْمٍ بِدِهَانٍ ، إِنَّ سَوَادَ الْبِدْعَةِ لَفِي وَجْهِهِ "
وَهَذِهِ الْأُمُورُ تَظْهَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ظُهُورًا تَامًّا . قَالَ تَعَالَى :
وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=60الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ ( 60 )
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=61وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ
وَقَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=106يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ( 106 )
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=107وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
.
[ ص: 491 ] قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ : تَبْيَضُّ وُجُوهُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ ، وَتَسْوَدُّ وُجُوهُ أَهْلِ الْبِدْعَةِ وَالْفُرْقَةِ .
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ مَا فِي الْقُلُوبِ مِنْ قَصْدِ الصِّدْقِ وَالْمَحَبَّةِ وَالْبِرِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ قَدْ يَظْهَرُ عَلَى الْوَجْهِ حَتَّى يُعْلَمَ ذَلِكَ عِلْمًا ضَرُورِيًّا مِنْ أَبْلَغِ الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ ، وَكَذَلِكَ مَا فِيهَا مِنْ قَصْدِ الْكَذِبِ وَالْبُغْضِ وَالْفُجُورِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ، وَالْإِنْسَانُ يُرَافِقُ فِي سَفَرِهِ مَنْ لَمْ يَرَهُ قَطُّ إِلَّا تِلْكَ السَّاعَةَ فَلَا يَلْبَثُ إِذَا رَآهُ مُدَّةً ، وَسَمِعَ كَلَامَهُ أَنْ يَعْرِفَ هَلْ هُوَ مَأْمُونٌ يَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ ؟ أَوْ لَيْسَ كَذَلِكَ ؟ وَقَدْ يُشْتَبَهُ عَلَيْهِ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ ، وَرُبَّمَا غَلِطَ ، لَكِنَّ الْعَادَةَ الْغَالِبَةَ أَنَّهُ يَتَبَيَّنُ ذَلِكَ بَعْدُ لِعَامَّةِ النَّاسِ .
وَكَذَلِكَ الْجَارُ يَعْرِفُ جَارَهُ ، وَالْمُعَامِلُ يَعْرِفُ مُعَامِلَهُ ، وَلِهَذَا لَمَّا شَهِدَ عِنْدَ
nindex.php?page=showalam&ids=2عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَجُلٌ فَزَكَّاهُ آخَرُ قَالَ : هَلْ أَنْتَ جَارُهُ الْأَدْنَى تَعْرِفُ مَسَاءَهُ وَصَبَاحَهُ ؟ قَالَ : لَا . قَالَ : هَلْ عَامَلْتَهُ فِي الدِّرْهَمِ وَالدِّينَارِ الَّذِينَ تُمْتَحَنُ بِهِمَا أَمَانَاتُ النَّاسِ ؟ قَالَ : لَا . قَالَ : هَلْ رَافَقْتَهُ فِي السَّفَرِ الَّذِي يَنْكَشِفُ فِيهِ أَخْلَاقُ النَّاسِ ؟ قَالَ : لَا . قَالَ : فَلَسْتَ
[ ص: 492 ] تَعْرِفُهُ وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ : لَعَلَّكَ رَأَيْتَهُ يَرْكَعُ رَكَعَاتٍ فِي الْمَسْجِدِ . وَذَلِكَ أَنَّ الْمُنَافِقَ قَدْ يُظْهِرُ الصَّلَاةَ فَمَنْ لَمْ يَخْبُرْهُ لَا يَعْرِفُ بَاطِنَ أَمْرِهِ كَمَا قِيلَ :
ذِئْبٌ تَرَاهُ مُصَلِّيًا فَإِذَا مَرَرْتَ بِهِ رَكَعْ
يَدْعُو وَجُلُّ دُعَائِهِ مَا لِلْفَرِيسَةِ لَا تَقَعْ ، وَإِذَا الْفَرِيسَةُ خُيِّلَتْ
ذَهَبَ التَّنَسُّكُ وَالْوَرَعْ
فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَنْ نَبَّأَهُ اللَّهُ وَاصْطَفَاهُ لِلرِّسَالَةِ كَانَ قَلْبُهُ مِنْ أَفْضَلِ الْقُلُوبِ صِدْقًا وَبِرًّا ،
nindex.php?page=treesubj&link=18984وَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ كَانَ قَلْبُهُ مِنْ شَرِّ الْقُلُوبِ كَذِبًا وَفُجُورًا كَمَا قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=10عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ : إِنَّ اللَّهَ نَظَرَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ فَوَجَدَ قَلْبَ
مُحَمَّدٍ خَيْرَ قُلُوبِ الْعِبَادِ فَاصْطَفَاهُ لِرِسَالَتِهِ ، ثُمَّ نَظَرَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ بَعْدَ قَلْبِ
مُحَمَّدٍ فَوَجَدَ قُلُوبَ أَصْحَابِهِ خَيْرَ قُلُوبِ
[ ص: 493 ] الْعِبَادِ فَاتَّخَذَهُمْ لِصُحْبَةِ نَبِيِّهِ ، وَإِقَامَةِ دِينِهِ فَمَا رَآهُ الْمُؤْمِنُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ ، وَمَا رَآهُ الْمُؤْمِنُونَ سَيِّئًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ سَيِّئٌ ، وَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=10عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ : مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مُسْتَنًّا فَلْيَسْتَنَّ بِمَنْ قَدْ مَاتَ فَإِنَّ الْحَيَّ لَا يُؤْمَنُ عَلَيْهِ الْفِتْنَةُ . أُولَئِكَ أَصْحَابُ
مُحَمَّدٍ أَبَرُّ هَذِهِ الْأُمَّةِ قُلُوبًا ، وَأَعْمَقُهَا عِلْمًا ، وَأَقَلُّهَا تَكَلُّفًا ، قَوْمٌ اخْتَارَهُمُ اللَّهُ لِصُحْبَةِ نَبِيِّهِ ، وَإِقَامَةِ دِينِهِ ، فَاعْرِفُوا لَهُمْ حَقَّهُمْ ، وَتَمَسَّكُوا بِهَدْيِهِمْ ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْهُدَى الْمُسْتَقِيمِ .
وَإِذَا كَانَ مِنْ أَعْظَمِ بَلْ أَعْظَمَ أَهْلِ زَمَانِهِ صِدْقًا وَبِرًّا فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَظْهَرَ عَلَى فَلَتَاتِ لِسَانِهِ وَصَفَحَاتِ وَجْهِهِ مَا يُنَاسِبُ ذَلِكَ ، كَمَا أَنَّ الْكَاذِبَ الْكَافِرَ لَا بُدَّ أَنْ يَظْهَرَ عَلَى وَجْهِهِ وَفَلَتَاتِ لِسَانِهِ مَا يُنَاسِبُ ذَلِكَ ، وَهَذَا يَكُونُ تَارَةً حِينَ إِخْبَارِهِ بِمَا يُخْبِرُ بِهِ ، وَتَارَةً مَوْجُودًا فِي غَيْرِ تِلْكَ الْحَالِ ، فَإِنَّ الرَّجُلَ إِذَا جَاءَ ، وَقَالَ : إِنَّ السُّلْطَانَ أَوِ الْأَمِيرَ أَوِ الْحَاكِمَ أَوِ الشَّيْخَ أَوْ فُلَانًا أَرْسَلَنِي إِلَيْكُمْ بِكَذَا ، فَإِنَّهُ قَدْ يَقْتَرِنُ بِنَفْسِ إِخْبَارِهِ مِنْ كَيْفِيَّتِهِ وَحَالِهِ مَا يُعْلَمُ بِهِ أَنَّهُ صَادِقٌ أَوْ كَاذِبٌ ، وَإِنْ كَانَ مَعْرُوفًا قَبْلَ ذَلِكَ
[ ص: 494 ] بِالصِّدْقِ أَوِ الْكَذِبِ كَانَ ذَلِكَ دَلَالَةً أُخْرَى ، وَقَدْ يَكُونُ مِمَّنْ يَكْذِبُ ، وَلَكِنْ يُعْرَفُ أَنَّهُ صَادِقٌ فِي ذَلِكَ الْخَبَرِ ، دَعْ مَنْ يَسْتَمِرُّ عَلَى خَبَرٍ وَاحِدٍ بِضْعًا وَعِشْرِينَ سَنَةً مَعَ أَصْنَافِ النَّاسِ ، وَاخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ .
وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ النَّاسَ تَخْتَلِفُ أَحْوَالُهُمْ فِي الْمَعْرِفَةِ ، وَالْخِبْرَةِ ، وَالنَّظَرِ ، وَالِاسْتِدْلَالِ فِي جَمِيعِ الْمَعَارِفِ ، فَقَدْ يَتَفَطَّنُ الْإِنْسَانُ لِدَلَالَةٍ لَا يَتَفَطَّنُ لَهَا غَيْرُهُ ، وَقَدْ يَتَبَيَّنُ لَهُ مَا يَخْفَى عَلَى غَيْرِهِ ، حَتَّى
nindex.php?page=treesubj&link=29638الْأَنْبِيَاءُ يَتَفَاضَلُونَ كَمَا قَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=78وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=79فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْعِلْمَ بِصِدْقِ الصَّادِقِ ، وَكَذِبِ الْكَاذِبِ كَغَيْرِهِمَا مِنَ الْمَعْلُومَاتِ قَدْ يَكُونُ ضَرُورِيًّا ، وَقَدْ يَكُونُ نَظَرِيًّا ، وَهُوَ لَيْسَ مِنَ الضَّرُورِيَّاتِ الْكُلِّيَّةِ الْأَوَّلِيَّةِ ، كَالْعِلْمِ بِأَنَّ الْوَاحِدَ نِصْفُ الِاثْنَيْنِ ، بَلْ مِنَ الْعِلْمِ بِالْأُمُورِ الْمُعَيَّنَةِ كَالْعِلْمِ بِحُمْرَةِ الْخَجِلِ ، وَصُفْرَةِ الْوَجِلِ ، وَعَدْلِ الْعَادِلِ ، وَظُلْمِ الظَّالِمِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَعْرِفُهُ الْخَبِيرُ بِذَلِكَ عِلْمًا ضَرُورِيًّا ، وَإِذَا كَانَ اسْتِدْلَالِيًّا فَالْمَعْرِفَةُ بِالْعِلْمِ لَا تَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ وُجُودِ
[ ص: 495 ] الدَّلِيلِ فِي نَفْسِهِ ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ الْقَلْبِ بِهِ ، وَالنَّاسُ مُتَفَاوِتُونَ فِي ذَلِكَ ، وَالدَّلِيلُ أَبَدًا هُوَ مَا اسْتَلْزَمَ الْمَدْلُولَ ، فَكُلُّ مَا كَانَ مُسْتَلْزِمًا لِلشَّيْءِ كَانَ دَلِيلًا عَلَيْهِ ، لَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَتِهِ ، وَمَعْرِفَةِ أَنَّهُ مُسْتَلْزِمٌ ثُمَّ إِذَا حَصَلَ الْعِلْمُ صَارَ ضَرُورِيًّا ، وَقَدْ يَكُونُ ضَرُورِيًّا بِلَا وَاسِطَةِ دَلِيلٍ مُعَيَّنٍ ، وَلَيْسَ الْعِلْمُ بِالْمُعَيَّنَاتِ كَالْعِلْمِ بِصِدْقِ هَذَا وَكَذِبِ هَذَا ، مِمَّا يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى الْقِيَاسِ الشُّمُولِيِّ ، فَإِنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يُفِيدُ بِتَوَسُّطِ قَضِيَّةٍ كُلِّيَّةٍ ، وَالْمُعَيَّنَاتُ قَدْ لَا يَحْتَاجُ فِيهَا إِلَى ذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ خِبْرَةٍ بِحَالِ ذَلِكَ الْمُعَيَّنِ .
وَإِذَا كَانَ الْقَائِلُ : إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ خِيَارِ النَّاسِ ، وَأَصْدَقِهِمْ ، وَأَبَرِّهِمْ ، وَأَفْضَلِهِمْ ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ شَرَارِ النَّاسِ ، وَأَكْذَبِهِمْ ، وَأَفْجَرِهِمْ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَيْنِ يَكُونُ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ لَا تَكَادُ تَنْضَبِطُ ، كُلٌّ مِنْهَا يُعْرَفُ بِهِ صِدْقُ هَذَا وَكَذِبُ هَذَا ، وَكَانَتِ الْمَعْرِفَةُ بِذَلِكَ قَدْ تَحْصُلُ عِنْدَ سَمَاعِ خَبَرِ هَذَا وَخَبَرِ هَذَا ، وَرُؤْيَةِ وَجْهِهِ ، وَسَمَاعِ كَلَامِهِ ، وَمَا يَلْزَمُ ذَلِكَ وَيَقْتَرِنُ بِهِ مِنْ بَهْجَةِ الصِّدْقِ وَنُورِهِ ، وَمِنْ ظُلْمَةِ الْكَذِبِ وَسَوَادِهِ وَقُبْحِهِ .
يَتَبَيَّنُ بِذَلِكَ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَحْصُلُ لَهُمْ عِلْمٌ ضَرُورِيٌّ بِأَنَّ
[ ص: 496 ] هَذَا النَّبِيَّ صَادِقٌ ، وَهَذَا الْمُتَنَبِّي كَاذِبٌ بِمِثْلِ ذَلِكَ ، مِنْ قَبْلِ أَنْ يَرَوْا خَارِقًا لِلْعَادَةِ .
وَقَوْلُ بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ : مَا لَمْ يَكُنْ خَارِقًا لِلْعَادَةِ ، لَا اخْتِصَاصَ لِلنَّبِيِّ بِهِ ، فَلَا يَدُلُّ . فَيُقَالُ لَهُ : لَفْظُ خَرْقِ الْعَادَةِ لَفْظٌ مُجْمَلٌ ، وَإِنَّ تَعَيُّنَ دَعْوَى النُّبُوَّةِ صِدْقًا وَكَذِبًا لَيْسَ هُوَ أَمْرًا مُعْتَادًا ، وَلَمْ يَقَعْ هَذَا إِلَّا فِي أَفْرَادٍ مِنَ الْعَالَمِ ، وَهُوَ أَقَلُّ بِكَثِيرٍ مِنَ الْإِخْبَارِ بِالْمُغَيَّبَاتِ ، فَإِنَّ هَذَا أَكْثَرُ فِي الْوُجُودِ مِنْ دَعْوَى النُّبُوَّةِ ، إِذْ كُلُّ نَبِيٍّ يُخْبِرُ بِالْمُغَيَّبَاتِ ، وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ أَخْبَرَ بِهَا كَانَ نَبِيًّا ، وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَقُولُونَ هَذَا يَقُولُ أَكْثَرُهُمْ أَوْ كَثِيرٌ مِنْهُمْ : إِنَّ دَعْوَى النُّبُوَّةِ وَالتَّحَدِّيَ وَالْمُعْجِزَ مَجْمُوعُهَا هُوَ الْمُخْتَصُّ بِالنَّبِيِّ ، وَإِلَّا فَهُمْ يَقُولُونَ : إِنَّ مَا كَانَ مُعْجِزَةً لِنَبِيٍّ جَازَ أَنْ يَظْهَرَ عَلَى يَدَيْ وَلِيٍّ أَوْ سَاحِرٍ ، وَإِنَّمَا يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا التَّحَدِّي وَعَدَمُ الْمُعَارَضَةِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يُنْكِرُ خَرْقَ الْعَادَةِ أَنْ يَظْهَرَ عَلَى يَدِ غَيْرِ نَبِيٍّ ،
nindex.php?page=treesubj&link=28806وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْوَلِيِّ وَالسَّاحِرِ إِلَّا بِبِرِّ هَذَا وَفُجُورِ هَذَا ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَطْرِدُ ذَلِكَ فِي النَّبِيِّ لَا سِيَّمَا مُتَفَلْسِفَةَ الْيُونَانِ ، فَإِنَّهُمْ مِنْ أَجْهَلِ
[ ص: 497 ] النَّاسِ بِأَمْرِ النُّبُوَّةِ ، إِذْ كَانُوا لَمْ يَأْخُذُوهَا مِنَ الْعِلْمِ بِصِدْقِ الْأَنْبِيَاءِ ، وَبِمَا جَاءُوا بِهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالْبَرَاهِينِ وَالْعِلْمِ بِصِفَاتِهِمْ ، وَإِنَّمَا أَخَذُوهَا مِنَ الْقِيَاسِ عَلَى الْمَنَامَاتِ ، فَجَوَّزُوا فِيهَا مِثْلَ مَا يَجُوزُ عَلَى النَّائِمِ مِنَ الْأَحْلَامِ وَالتَّخَيُّلِ ، وَمَا يُصِيبُ أَهْلَ الْمَرَّةِ السَّوْدَاءِ مِمَّا يُشْبِهُ ذَلِكَ .
وَهَذَا هُوَ الْمَوْجُودُ فِي عَامَّةِ أَتْبَاعِ
أَرِسْطُو ، وَلَكِنْ مُتَأَخِّرُوهُمْ
nindex.php?page=showalam&ids=13251كَابْنِ سِينَا ضَمَّ إِلَى ذَلِكَ تَصَرُّفَهُ فِي هَيُولِي الْعَالَمِ لِمَا بَلَغَهُ مِنْ خَوَارِقِهِمُ الْفِعْلِيَّةِ الَّتِي لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُهَا أُولَئِكَ ، إِذْ كَانَ عِلْمُ
أَرِسْطُو هُوَ مَا كَانَ يَعْلَمُهُ قَوْمُهُ مِنَ
الْيُونَانِ ، وَهُمْ أُمَّةٌ أَوْلَادُ
يَافِثَ لَمْ يَكُنْ
[ ص: 498 ] فِيهِمْ مَا فِي أَوْلَادِ
سَامٍ كَهُودٍ ، وَصَالِحٍ ، وَغَيْرِهِمَا ، ثُمَّ أَوْلَادِ
إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ الَّذِي وَعَدَهُ اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ حَتَّى يَكُونَ عِلْمُ النُّبُوَّةِ مَشْهُورًا فِيهِمْ ، وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ زَمَنِ
الْخَلِيلِ فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ ، كَمَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ ، وَهُمْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ ذُرِّيَّتِهِ ، وَلَا كَانُوا خَبِيرِينَ بِأَحْوَالِ ذُرِّيَّتِهِ ، وَقَدْ ذَكَرَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ
كَمُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ الْعَامِرِيِّ ، وَصَاعِدِ بْنِ صَاعِدٍ الْأَنْدَلُسِيِّ أَنَّ أَسَاطِينَهُمْ خَمْسَةٌ
[ ص: 499 ] ثُمَّ أَرْبَعَةٌ
ابُنْدُقْلُسُ ثُمَّ
فِيثَاغُورْسُ ثُمَّ
سُقْرَاطُ ثُمَّ
أَفَلَاطُنُ قَدِمُوا
الشَّامَ ، وَاسْتَفَادُوا مِنْ
بَنِي إِسْرَائِيلَ ، وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ قَالَ بِقَدَمِ الْعَالَمِ بِخِلَافِ
أَرِسْطُو قَالُوا : فَإِنَّهُ لَمْ يَقْدِمِ
الشَّامَ ، وَذَكَرَ هَؤُلَاءِ
كَمُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ الْعَامِرِيِّ ، وَغَيْرِهِ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ لُقِّبَ بِالْحِكْمَةِ
لُقْمَانُ ، وَأَنَّ
ابُنْدُقْلُسَ اسْتَفَادَ مِنْهُ ، وَمِنْ أَتْبَاعِ
دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ -
[ ص: 500 ] فَإِنَّهُ كَانَ فِي زَمَنِ
دَاوُدَ ، وَإِذَا كَانَ هَذَا قَوْلَ هَؤُلَاءِ النُّظَّارِ ،
nindex.php?page=treesubj&link=28752وَأَهْلِ الْكَلَامِ وَالْفَلْسَفَةِ ، فَمُجَرَّدُ خَرْقِ الْعَادَةِ عِنْدَهُمْ لَيْسَ وَحْدَهُ مُسْتَلْزِمًا لِلنُّبُوَّةِ حَتَّى يَكُونَ وَحْدَهُ دَلِيلًا بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَنْضَمَّ إِلَى ذَلِكَ التَّحَدِّي وَعَدَمُ الْمُعَارَضَةِ .
وَلِهَذَا لَمَّا اخْتَلَفَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ
كَأَبِي الْحَسَنِ وَأَتْبَاعِهِ : هَلْ يَجُوزُ ظُهُورُ الْخَارِقِ عَلَى يَدِ الْكَاذِبِ ؟ فَقِيلَ : لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ عَلَمُ النُّبُوَّةِ ، فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَتَخَلَّفَ عَنْهُ مَدْلُولُهُ كَسَائِرِ الْأَدِلَّةِ ، وَقِيلَ : بَلْ يَجُوزُ ، وَلَكِنَّ اللَّهَ لَا يَفْعَلُهُ . ثُمَّ قِيلَ : لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ عَجْزَهُ عَنْ تَصْدِيقِ الرَّسُولِ إِذْ لَا طَرِيقَ إِلَيْهِ إِلَّا الْمُعْجِزُ عِنْدَهُمْ ، وَقِيلَ : بَلْ هُوَ مَقْدُورٌ مُمْكِنٌ ، وَلَكِنْ نَحْنُ نَعْلَمُ اضْطِرَارًا أَنَّهُ لَا يَفْعَلُهُ مِثْلَ كَثِيرٍ مِمَّا يُمْكِنُ فِي الْعَادَةِ ، وَنَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ لَا يَفْعَلُهُ ، وَجَمِيعُ مَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ ، وَقَالَ : مَجْمُوعُ مَا يَدُلُّ عَلَى النُّبُوَّةِ ، وَهُوَ الْخَارِقُ السَّالِمُ عَنِ الْمُعَارَضِ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِ نَبِيٍّ بِخِلَافِ جِنْسِ الْخَارِقِ ، فَقِيلَ لَهُ : هَذَا الِامْتِنَاعُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَادِيًّا ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لِاسْتِلْزَامِهِ الْعَجْزَ عَنْ تَصْدِيقِ النَّبِيِّ ، وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ فَإِذَا كَانَ مُمْتَنِعًا لِاسْتِلْزَامِهِ الْعَجْزَ عَنْ تَصْدِيقِ النَّبِيِّ ، وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ فَإِذَا كَانَ مُمْتَنِعًا لِاسْتِلْزَامِهِ أَمْرًا مُمْتَنِعًا ، وَإِذَا كَانَ انْفِلَاتُ
[ ص: 501 ] الْعَادَةِ لَيْسَ عِنْدَكَ مُمْتَنِعًا فَلَا بُدَّ لَكَ مِنْ ذَلِكَ الْجَوَابِ ، وَهُوَ الْقَوْلُ بِأَنَّا نَعْلَمُ ضَرُورَةً أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ ، ثُمَّ إِذَا عَلِمْتَ أَنَّ هَذَا عِلْمٌ ضَرُورِيٌّ ، وَأَنَّ الْعِلْمَ بِدَلَالَتِهَا عَلَى الصِّدْقِ أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ كَالْمَثَلِ الَّذِي ضَرَبْتُهُ فِي إِرْسَالِ الْمَلِكِ رَسُولًا ، وَقَوْلِ رَسُولِهِ : إِنْ كُنْتَ صَادِقًا فَغَيِّرْ عَادَتَكَ بِقِيَامِكَ ثُمَّ قُعُودِكَ ، فَفَعَلَ ذَلِكَ عَقِبَ سُؤَالِ الرَّسُولِ ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ بِصِدْقِ الرَّسُولِ .
وَقِيلَ لَكَ : الْمَلِكُ تُعْلَمُ عَادَتُهُ ، وَيُعْلَمُ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ لِلتَّصْدِيقِ ، وَالرَّبُّ عِنْدَكَ لَمْ يَخْلُقْ شَيْئًا لِشَيْءٍ . فَقُلْتَ : بَلْ يَخْلُقُ شَيْئًا مُقَارِنًا لِشَيْءٍ كَالْعَادِيَّاتِ ، وَهَذَا مِنْهَا . فَقِيلَ لَكَ : الْعَادَاتُ قَدْ تَكَرَّرَتْ . فَقُلْتَ : قَدْ نَعْلَمُ ذَلِكَ بِلَا تَكَرُّرٍ ، وَجَعَلْتَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الدَّلَالَةِ الْوَضْعِيَّةِ كَدَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَى قَصْدِ الْمُتَكَلِّمِ ، وَقُلْتَ : قَدْ نَعْلَمُ قَصْدَهُ اضْطِرَارًا مِنْ غَيْرِ سَبْقِ مُوَاضَعَةٍ ، وَهَذِهِ الْعُلُومُ الضَّرُورِيَّةُ الَّتِي ذَكَرْتَ أَنَّهُ يُعْلَمُ بِهَا صِدْقُ الرَّسُولِ ، وَإِنْ كَانَتْ حَقًّا فَجُمْهُورُ النَّاسِ يَقُولُونَ : إِنَّكَ لَمْ تُقِرَّ بِلَوَازِمِهَا مِنْ كَوْنِهِ يَفْعَلُ لِأَجْلِ كَذَا ، وَيَقُولُونَ :
nindex.php?page=treesubj&link=28752الْقَوْلُ بِأَنَّهُ خَلَقَ الْمُعْجِزَةَ لِقَصْدِ التَّصْدِيقِ مَعَ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ لَا يَخْلُقُ شَيْئًا لِأَجْلِ شَيْءٍ تَنَاقُضًا . فَقُلْتَ : لَا يُشْتَرَطُ فِي الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ الْعِلْمُ بِأَنَّهُ يَفْعَلُ كَذَا لِأَجْلِ كَذَا . فَقِيلَ
[ ص: 502 ] لَكَ : هَبْ أَنَّهُ كَذَلِكَ لَكِنْ لَا يَحْصُلُ الْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ مَعَ الْعِلْمِ بِمَا يُنَاقِضُهُ .
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ مَا يَذْكُرُهُ هَؤُلَاءِ وَأَمْثَالُهُمْ مِنَ النُّظَّارِ ، بَلْ وَعَامَّةُ النَّاسِ هُمْ فِيمَا يُثْبِتُونَهُ مِنَ الْعِلْمِ وَالْحَقَائِقِ الْمَعْلُومَةِ أَسَدُّ مِنْهُمْ وَأَصْوَبُ فِيمَا يَنْفُونَهُ ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لِمَا يُثْبِتُهُ أَعْلَمُ مِنْهُ بِمَا يَنْفِيهِ ، وَشَهَادَتُهُ عَلَى الْإِثْبَاتِ أَقْوَى مِنْ شَهَادَتِهِ عَلَى النَّفْيِ ، وَإِنْ كَانَ النَّفْيُ قَدْ يَكُونُ مَعْلُومًا لَكِنْ غَلَطُ النَّاسِ فِيمَا يَنْفُونَهُ وَيُكَذِّبُونَ بِهِ أَكْثَرُ مِنْ غَلَطِهِمْ فِيمَا يُثْبِتُونَهُ وَيُصَدِّقُونَ بِهِ ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=39بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ
وَلِهَذَا تَجِدُ مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا مِنَ الطُّرُقِ إِمَّا فِي إِثْبَاتِ الْعِلْمِ بِالصَّانِعِ ، وَإِمَّا فِي الْعِلْمِ بِالنُّبُوَّةِ أَوِ الْعِلْمِ بِالْمَعَادِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ، وَاحِدٌ يَقُولُ : لَا طَرِيقَ إِلَّا هَذَا الطَّرِيقُ ، يُخْطِئُ فِي النَّفْيِ أَكْثَرَ مِنْ خَطَئِهِ فِي الْإِثْبَاتِ ، وَمِنْهُمْ هَؤُلَاءِ فَإِنَّهُمْ قَدْ يَنْفُونَ مِنَ الْعِلْمِ وَالطُّرُقِ مَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهُمْ بِالِاضْطِرَارِ ، وَيُثْبِتُونَ مَا يَقُولُونَ إِنَّهُ مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ ، وَقَدْ يَكُونُ غَيْرُهُمْ أَصْوَبَ فِيمَا يُثْبِتُهُ مِنْهُمْ فِيمَا يَنْفُونَهُ ، بَلْ وَفِيمَا يُثْبِتُونَهُ .
[ ص: 503 ] nindex.php?page=treesubj&link=28752وَلِهَذَا الَّذِينَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا طَرِيقَ إِلَّا الْمُعْجِزَاتُ تَنَوَّعُوا فِي وَجْهِ دَلَالَتِهَا فَيُثْبِتُ هَؤُلَاءِ وَجْهًا يَسْتَدِلُّونَ بِهِ ، وَيَنْفُونَ طَرِيقَ غَيْرِهِمْ ، وَبِالْعَكْسِ ، فَإِذَا قَالُوا مَا سِوَى الْخَارِقِ لِلْعَادَةِ لَيْسَ يَخْتَصُّ بِالنَّبِيِّ فَلَا يَدُلُّ عَلَى نُبُوَّتِهِ . قِيلَ لَهُمُ : الدَّلِيلُ هُوَ الَّذِي يَكُونُ مُسْتَلْزِمًا لِلْمَدْلُولِ يَلْزَمُ مِنْ تَحَقُّقِهِ تَحَقَّقُ الْمَدْلُولِ ، وَلَفْظُ الْخَارِقِ لِلْعَادَةِ فِيهِ إِجْمَالٌ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَحِينَئِذٍ فَنَفْسُ إِنْبَاءِ اللَّهِ لِلنَّبِيِّ ، وَاصْطِفَائِهِ لِرِسَالَتِهِ ، وَإِقْدَارِهِ عَلَى التَّلَقِّي مِنَ الْمَلِكِ هُوَ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ ، وَذَلِكَ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ الَّتِي أَعْجَزَ اللَّهُ الْخَلْقَ أَنْ يَفْعَلُوهُ ، وَهُوَ مُخْتَصٌّ بِالْأَنْبِيَاءِ ، وَهَذَا الْوَصْفُ أَجَلُّ وَأَعْظَمُ قَدْرًا مِنْ غَيْرِهِ مِنَ الْخَوَارِقِ ، وَالْمُسْتَلْزِمُ لِهَذَا الْخَارِقِ لَا يَكُونُ إِلَّا خَارِقًا ، وَهُوَ الدَّلِيلُ ، إِذْ يَلْزَمُ مِنْ ثُبُوتِ الْمَلْزُومِ ثُبُوتُ اللَّازِمِ ، وَمِنَ انْتِفَاءِ اللَّازِمِ انْتِفَاءُ الْمَلْزُومِ ، وَالْمُعْتَادُ الَّذِي يُوجَدُ بِدُونِ النُّبُوَّةِ لَا يَكُونُ دَلِيلًا .