الحادي عشر : أن
nindex.php?page=treesubj&link=25521فسخ الحج إلى العمرة ، موافق لقياس الأصول ، لا
[ ص: 202 ] مخالف له . ولو لم يرد به النص ، لكان القياس يقتضي جوازه ، فجاء النص به على وفق القياس ، قاله شيخ الإسلام ، وقرره بأن المحرم إذا التزم أكثر مما كان لزمه جاز باتفاق الأئمة .
فلو
nindex.php?page=treesubj&link=3744_28114أحرم بالعمرة ثم أدخل عليها الحج ، جاز بلا نزاع ، وإذا
nindex.php?page=treesubj&link=25649أحرم بالحج ثم أدخل عليه العمرة لم يجز عند الجمهور ، وهو مذهب
مالك ،
وأحمد ،
nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي في ظاهر مذهبه ،
nindex.php?page=showalam&ids=11990وأبو حنيفة يجوز ذلك بناء على أصله في أن القارن يطوف طوافين ، ويسعى سعيين . قال وهذا قياس الرواية المحكية عن
أحمد في القارن : أنه يطوف طوافين ويسعى سعيين . وإذا كان كذلك فالمحرم بالحج لم يلتزم إلا الحج .
فإذا صار متمتعا ، صار ملتزما لعمرة وحج ، فكان ما التزمه بالفسخ أكثر مما كان عليه فجاز ذلك .
ولما كان أفضل ، كان مستحبا ، وإنما أشكل هذا على من ظن أنه فسخ حجا إلى عمرة ، وليس كذلك فإنه لو أراد أن
nindex.php?page=treesubj&link=25521يفسخ الحج إلى عمرة مفردة لم يجز بلا نزاع ، وإنما الفسخ جائز لمن كان من نيته أن يحج بعد العمرة ، والمتمتع من حين يحرم بالعمرة فهو داخل في الحج ، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16001068دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة " ولهذا ، يجوز له أن يصوم الأيام الثلاثة من حين يحرم بالعمرة ، فدل على أنه في تلك الحال في الحج . وأما إحرامه بالحج بعد ذلك ، فكما يبدأ الجنب بالوضوء ، ثم يغتسل بعده .
وكذلك كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعل . إذا اغتسل من الجنابة . وقال للنسوة في غسل ابنته : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16001217ابدأن بميامنها ، ومواضع الوضوء منها ". فغسل مواضع الوضوء بعض الغسل .
فإن قيل هذا باطل لثلاثة أوجه .
أحدها : أنه إذا فسخ ، استفاد بالفسخ حلا كان ممنوعا منه بإحرامه الأول فهو دون ما التزمه .
[ ص: 203 ] الثاني : أن النسك الذي كان قد التزمه أولا ، أكمل من النسك الذي فسخ إليه ، ولهذا لا يحتاج الأول إلى جبران ، والذي يفسخ إليه ، يحتاج إلى هدي جبرانا له ، ونسك لا جبران فيه أفضل من نسك مجبور .
الثالث : أنه إذا لم يجز إدخال العمرة على الحج ، فلأن لا يجوز إبدالها به وفسخه إليها بطريق الأولى والأحرى .
فالجواب عن هذه الوجوه من طريقين ، مجمل ومفصل .
أما المجمل : فهو أن هذه الوجوه اعتراضات على مجرد السنة ، والجواب عنها بالتزام تقديم الوحي على الآراء ، وأن كل رأي يخالف السنة فهو باطل قطعا ، وبيان بطلانه لمخالفة السنة الصحيحة الصريحة له ، والآراء تبع للسنة ، وليست السنة تبعا للآراء .
وأما المفصل : وهو الذي نحن بصدده فإنا التزمنا أن الفسخ على وفق القياس فلا بد من الوفاء بهذا الالتزام ، وعلى هذا فالوجه الأول جوابه : بأن التمتع - وإن تخلله التحلل - فهو أفضل من الإفراد الذي لا حل فيه ، لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - من لا هدي معه بالإحرام به ، ولأمره أصحابه بفسخ الحج إليه ، ولتمنيه أنه كان أحرم به ، ولأنه النسك المنصوص عليه في كتاب الله ، ولأن الأمة أجمعت على جوازه ، بل على استحبابه ، واختلفوا في غيره على قولين ، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، غضب حين أمرهم بالفسخ إليه بعد الإحرام بالحج فتوقفوا ، ولأنه من المحال قطعا أن تكون حجة قط أفضل من حجة خير القرون وأفضل العالمين مع نبيهم - صلى الله عليه وسلم - ، وقد أمرهم كلهم بأن يجعلوها متعة إلا من ساق الهدي ، فمن المحال أن يكون غير هذا الحج أفضل منه ، إلا حج من قرن وساق الهدي ، كما اختاره الله سبحانه لنبيه ، فهذا هو الذي اختاره الله لنبيه واختار لأصحابه التمتع ، فأي حج أفضل من هذين . ولأنه من المحال أن ينقلهم من النسك الفاضل إلى المفضول المرجوح ، ولوجوه أخر كثيرة
[ ص: 204 ] ليس هذا موضعها ، فرجحان هذا النسك أفضل من البقاء على الإحرام الذي يفوته بالفسخ ، وقد تبين بهذا بطلان الوجه الثاني .
وأما قولكم : إنه نسك مجبور بالهدي ، فكلام باطل من وجوه .
أحدها : أن
nindex.php?page=treesubj&link=3745_3680الهدي في التمتع عبادة مقصودة ، وهو من تمام النسك ، وهو دم شكران لا دم جبران ، وهو بمنزلة الأضحية للمقيم ، وهو من تمام عبادة هذا اليوم ، فالنسك المشتمل على الدم بمنزلة العيد المشتمل على الأضحية ، فإنه ما تقرب إلى الله في ذلك اليوم بمثل إراقة دم سائل .
وقد روى
nindex.php?page=showalam&ids=13948الترمذي وغيره من حديث
nindex.php?page=showalam&ids=1أبي بكر الصديق ،
nindex.php?page=hadith&LINKID=16001218أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل : أي الحج أفضل ؟ فقال : " العج والثج " . والعج :
nindex.php?page=treesubj&link=24737رفع الصوت بالتلبية ، والثج : إراقة دم الهدي . فإن قيل : يمكن المفرد أن يحصل هذه الفضيلة . قيل : مشروعيتها إنما جاءت في حق القارن والمتمتع ، وعلى تقدير استحبابها في حقه ، فأين ثوابها من ثواب
nindex.php?page=treesubj&link=3745_3757هدي المتمتع والقارن ؟
الوجه الثاني : إنه لو كان دم جبران ، لما جاز الأكل منه ، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أكل من هديه ، فإنه أمر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر ،
[ ص: 205 ] فأكل من لحمها ، وشرب من مرقها . وإن كان الواجب عليه سبع بدنة ، فإنه أكل من كل بدنة من المائة ، والواجب فيها مشاع لم يتعين بقسمة .
وأيضا : فإنه قد ثبت في " الصحيحين " :
nindex.php?page=hadith&LINKID=16001219أنه nindex.php?page=treesubj&link=3752أطعم نساءه من الهدي الذي ذبحه عنهن وكن متمتعات ، احتج به
nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد ، فثبت في " الصحيحين " عن
nindex.php?page=showalam&ids=25عائشة - رضي الله عنها - ،
nindex.php?page=hadith&LINKID=16001220أنه أهدى عن نسائه ، ثم أرسل إليهن من الهدي الذي ذبحه عنهن . وأيضا : فإن الله سبحانه وتعالى قال فيما يذبح
بمنى من الهدي : (
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=28فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير ) [ الحج : 28 ] وهذا يتناول هدي التمتع والقران قطعا إن لم يختص به ، فإن المشروع هناك ذبح هدي المتعة والقران .
ومن هاهنا والله أعلم أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، من كل بدنة ببضعة ، فجعلت في قدر امتثالا لأمر ربه بالأكل ليعم به جميع هديه .
الوجه الثالث : أن سبب الجبران محظور في الأصل ، فلا يجوز الإقدام عليه إلا لعذر ، فإنه إما ترك واجب ، أو فعل محظور ، والتمتع مأمور به ، إما أمر إيجاب عند طائفة
nindex.php?page=showalam&ids=11كابن عباس وغيره ، أو أمر استحباب عند الأكثرين ، فلو كان دمه دم جبران ، لم يجز الإقدام على سببه بغير عذر ، فبطل قولهم إنه دم جبران ، وعلم أنه دم نسك ، وهذا وسع الله به على عباده ، وأباح لهم بسببه التحلل في أثناء الإحرام لما في استمرار الإحرام عليهم من المشقة ، فهو بمنزلة القصر والفطر في السفر ، وبمنزلة المسح على الخفين ، وكان من هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهدي أصحابه فعل هذا وهذا ، "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16001221والله تعالى يحب أن يؤخذ برخصه ، كما يكره أن تؤتى معصيته ". فمحبته لأخذ العبد بما يسره عليه
[ ص: 206 ] وسهله له ، مثل كراهته منه لارتكاب ما حرمه عليه ومنعه منه . والهدي وإن كان بدلا عن ترفهه بسقوط أحد السفرين ، فهو أفضل لمن قدم في أشهر الحج من أن يأتي بحج مفرد ويعتمر عقيبه ، والبدل قد يكون واجبا كالجمعة عند من جعلها بدلا ،
nindex.php?page=treesubj&link=319وكالتيمم للعاجز عن استعمال الماء فإنه واجب عليه وهو بدل ، فإذا كان البدل قد يكون واجبا ، فكونه مستحبا أولى بالجواز وتخلل التحلل لا يمنع أن يكون الجميع عبادة واحدة كطواف الإفاضة ، فإنه ركن بالاتفاق ، ولا يفعل إلا بعد التحلل الأول ، وكذلك رمي الجمار أيام منى ، وهو يفعل بعد الحل التام ، وصوم رمضان يتخلله الفطر في لياليه ، ولا يمنع ذلك أن يكون عبادة واحدة .
ولهذا قال
مالك وغيره إنه يجزئ بنية واحدة للشهر كله لأنه عبادة واحدة . والله أعلم .
الْحَادِيَ عَشَرَ : أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=25521فَسْخَ الْحَجِّ إِلَى الْعُمْرَةِ ، مُوَافِقٌ لِقِيَاسِ الْأُصُولِ ، لَا
[ ص: 202 ] مُخَالِفٌ لَهُ . وَلَوْ لَمْ يَرِدْ بِهِ النَّصُّ ، لَكَانَ الْقِيَاسُ يَقْتَضِي جَوَازَهُ ، فَجَاءَ النَّصُّ بِهِ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ ، قَالَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ، وَقَرَّرَهُ بِأَنَّ الْمُحْرِمَ إِذَا الْتَزَمَ أَكْثَرَ مِمَّا كَانَ لَزِمَهُ جَازَ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ .
فَلَوْ
nindex.php?page=treesubj&link=3744_28114أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ أَدْخَلَ عَلَيْهَا الْحَجَّ ، جَازَ بِلَا نِزَاعٍ ، وَإِذَا
nindex.php?page=treesubj&link=25649أَحْرَمَ بِالْحَجِّ ثُمَّ أَدْخَلَ عَلَيْهِ الْعُمْرَةَ لَمْ يَجُزْ عِنْدَ الْجُمْهُورِ ، وَهُوَ مَذْهَبُ
مالك ،
وأحمد ،
nindex.php?page=showalam&ids=13790وَالشَّافِعِيِّ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ ،
nindex.php?page=showalam&ids=11990وأبو حنيفة يُجَوِّزُ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ الْقَارِنَ يَطُوفُ طَوَافَيْنِ ، وَيَسْعَى سَعْيَيْنِ . قَالَ وَهَذَا قِيَاسُ الرِّوَايَةِ الْمَحْكِيَّةِ عَنْ
أحمد فِي الْقَارِنِ : أَنَّهُ يَطُوفُ طَوَافَيْنِ وَيَسْعَى سَعْيَيْنِ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْمُحْرِمُ بِالْحَجِّ لَمْ يَلْتَزِمْ إِلَّا الْحَجَّ .
فَإِذَا صَارَ مُتَمَتِّعًا ، صَارَ مُلْتَزِمًا لِعُمْرَةٍ وَحَجٍّ ، فَكَانَ مَا الْتَزَمَهُ بِالْفَسْخِ أَكْثَرَ مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ فَجَازَ ذَلِكَ .
وَلَمَّا كَانَ أَفْضَلَ ، كَانَ مُسْتَحَبًّا ، وَإِنَّمَا أَشْكَلَ هَذَا عَلَى مَنْ ظَنَّ أَنَّهُ فَسَخَ حَجًّا إِلَى عُمْرَةٍ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ لَوْ أَرَادَ أَنْ
nindex.php?page=treesubj&link=25521يَفْسَخَ الْحَجَّ إِلَى عُمْرَةٍ مُفْرَدَةٍ لَمْ يَجُزْ بِلَا نِزَاعٍ ، وَإِنَّمَا الْفَسْخُ جَائِزٌ لِمَنْ كَانَ مِنْ نِيَّتِهِ أَنْ يَحُجَّ بَعْدَ الْعُمْرَةِ ، وَالْمُتَمَتِّعُ مِنْ حِينِ يُحْرِمُ بِالْعُمْرَةِ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي الْحَجِّ ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16001068دَخَلَتِ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ " وَلِهَذَا ، يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَصُومَ الْأَيَّامَ الثَّلَاثَةَ مِنْ حِينِ يُحْرِمُ بِالْعُمْرَةِ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ فِي تِلْكَ الْحَالِ فِي الْحَجِّ . وَأَمَّا إِحْرَامُهُ بِالْحَجِّ بَعْدَ ذَلِكَ ، فَكَمَا يَبْدَأُ الْجُنُبُ بِالْوُضُوءِ ، ثُمَّ يَغْتَسِلُ بَعْدَهُ .
وَكَذَلِكَ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَفْعَلُ . إِذَا اغْتَسَلَ مِنَ الْجَنَابَةِ . وَقَالَ لِلنِّسْوَةِ فِي غُسْلِ ابْنَتِهِ : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16001217ابْدَأْنَ بِمَيَامِنِهَا ، وَمَوَاضِعِ الْوُضُوءِ مِنْهَا ". فَغُسْلُ مَوَاضِعِ الْوُضُوءِ بَعْضُ الْغُسْلِ .
فَإِنْ قِيلَ هَذَا بَاطِلٌ لِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ .
أَحَدُهَا : أَنَّهُ إِذَا فَسَخَ ، اسْتَفَادَ بِالْفَسْخِ حِلًّا كَانَ مَمْنُوعًا مِنْهُ بِإِحْرَامِهِ الْأَوَّلِ فَهُوَ دُونَ مَا الْتَزَمَهُ .
[ ص: 203 ] الثَّانِي : أَنَّ النُّسُكَ الَّذِي كَانَ قَدِ الْتَزَمَهُ أَوَّلًا ، أَكْمَلُ مِنَ النُّسُكِ الَّذِي فَسَخَ إِلَيْهِ ، وَلِهَذَا لَا يَحْتَاجُ الْأَوَّلُ إِلَى جُبْرَانٍ ، وَالَّذِي يُفْسَخُ إِلَيْهِ ، يَحْتَاجُ إِلَى هَدْيٍ جُبْرَانًا لَهُ ، وَنُسُكٌ لَا جُبْرَانَ فِيهِ أَفْضَلُ مِنْ نُسُكٍ مَجْبُورٍ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَجُزْ إِدْخَالُ الْعُمْرَةِ عَلَى الْحَجِّ ، فَلِأَنْ لَا يَجُوزَ إِبْدَالُهَا بِهِ وَفَسْخُهُ إِلَيْهَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى .
فَالْجَوَابُ عَنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ مِنْ طَرِيقَيْنِ ، مُجْمَلٍ وَمُفَصَّلٍ .
أَمَّا الْمُجْمَلُ : فَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الْوُجُوهَ اعْتِرَاضَاتٌ عَلَى مُجَرَّدِ السُّنَّةِ ، وَالْجَوَابُ عَنْهَا بِالْتِزَامِ تَقْدِيمِ الْوَحْيِ عَلَى الْآرَاءِ ، وَأَنَّ كُلَّ رَأْيٍ يُخَالِفُ السُّنَّةَ فَهُوَ بَاطِلٌ قَطْعًا ، وَبَيَانُ بُطْلَانِهِ لِمُخَالَفَةِ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ لَهُ ، وَالْآرَاءُ تَبَعٌ لِلسُّنَّةِ ، وَلَيْسَتِ السُّنَّةُ تَبَعًا لِلْآرَاءِ .
وَأَمَّا الْمُفَصَّلُ : وَهُوَ الَّذِي نَحْنُ بِصَدَدِهِ فَإِنَّا الْتَزَمْنَا أَنَّ الْفَسْخَ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ فَلَا بُدَّ مِنَ الْوَفَاءِ بِهَذَا الِالْتِزَامِ ، وَعَلَى هَذَا فَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ جَوَابُهُ : بِأَنَّ التَّمَتُّعَ - وَإِنْ تَخَلَّلَهُ التَّحَلُّلُ - فَهُوَ أَفْضَلُ مِنَ الْإِفْرَادِ الَّذِي لَا حِلَّ فِيهِ ، لِأَمْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ لَا هَدْيَ مَعَهُ بِالْإِحْرَامِ بِهِ ، وَلِأَمْرِهِ أَصْحَابَهُ بِفَسْخِ الْحَجِّ إِلَيْهِ ، وَلِتَمَنِّيهِ أَنَّهُ كَانَ أَحْرَمَ بِهِ ، وَلِأَنَّهُ النُّسُكُ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ اللَّهِ ، وَلِأَنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ عَلَى جَوَازِهِ ، بَلْ عَلَى اسْتِحْبَابِهِ ، وَاخْتَلَفُوا فِي غَيْرِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، غَضِبَ حِينَ أَمَرَهُمْ بِالْفَسْخِ إِلَيْهِ بَعْدَ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ فَتَوَقَّفُوا ، وَلِأَنَّهُ مِنَ الْمُحَالِ قَطْعًا أَنْ تَكُونَ حَجَّةٌ قَطُّ أَفْضَلَ مِنْ حَجَّةِ خَيْرِ الْقُرُونِ وَأَفْضَلِ الْعَالَمِينَ مَعَ نَبِيِّهِمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، وَقَدْ أَمَرَهُمْ كُلَّهُمْ بِأَنْ يَجْعَلُوهَا مُتْعَةً إِلَّا مَنْ سَاقَ الْهَدْيَ ، فَمِنَ الْمُحَالِ أَنْ يَكُونَ غَيْرُ هَذَا الْحَجِّ أَفْضَلَ مِنْهُ ، إِلَّا حَجَّ مَنْ قَرَنَ وَسَاقَ الْهَدْيَ ، كَمَا اخْتَارَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِنَبِيِّهِ ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ وَاخْتَارَ لِأَصْحَابِهِ التَّمَتُّعَ ، فَأَيُّ حَجٍّ أَفْضَلُ مِنْ هَذَيْنِ . وَلِأَنَّهُ مِنَ الْمُحَالِ أَنْ يَنْقُلَهُمْ مِنَ النُّسُكِ الْفَاضِلِ إِلَى الْمَفْضُولِ الْمَرْجُوحِ ، وَلِوُجُوهٍ أُخَرَ كَثِيرَةٍ
[ ص: 204 ] لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهَا ، فَرُجْحَانُ هَذَا النُّسُكِ أَفْضَلُ مِنَ الْبَقَاءِ عَلَى الْإِحْرَامِ الَّذِي يَفُوتُهُ بِالْفَسْخِ ، وَقَدْ تَبَيَّنَ بِهَذَا بُطْلَانُ الْوَجْهِ الثَّانِي .
وَأَمَّا قَوْلُكُمْ : إِنَّهُ نُسُكٌ مَجْبُورٌ بِالْهَدْيِ ، فَكَلَامٌ بَاطِلٌ مِنْ وُجُوهٍ .
أَحَدُهَا : أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=3745_3680الْهَدْيَ فِي التَّمَتُّعِ عِبَادَةٌ مَقْصُودَةٌ ، وَهُوَ مِنْ تَمَامِ النُّسُكِ ، وَهُوَ دَمُ شُكْرَانٍ لَا دَمَ جُبْرَانٍ ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْأُضْحِيَةِ لِلْمُقِيمِ ، وَهُوَ مِنْ تَمَامِ عِبَادَةِ هَذَا الْيَوْمِ ، فَالنُّسُكُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى الدَّمِ بِمَنْزِلَةِ الْعِيدِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى الْأُضْحِيَةِ ، فَإِنَّهُ مَا تُقُرِّبَ إِلَى اللَّهِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ بِمِثْلِ إِرَاقَةِ دَمٍ سَائِلٍ .
وَقَدْ رَوَى
nindex.php?page=showalam&ids=13948الترمذي وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ
nindex.php?page=showalam&ids=1أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ ،
nindex.php?page=hadith&LINKID=16001218أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ : أَيُّ الْحَجِّ أَفْضَلُ ؟ فَقَالَ : " الْعَجُّ وَالثَّجُّ " . وَالْعَجُّ :
nindex.php?page=treesubj&link=24737رَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ ، وَالثَّجُّ : إِرَاقَةُ دَمِ الْهَدْيِ . فَإِنْ قِيلَ : يُمْكِنُ الْمُفْرِدُ أَنْ يُحَصِّلَ هَذِهِ الْفَضِيلَةَ . قِيلَ : مَشْرُوعِيُّتُهَا إِنَّمَا جَاءَتْ فِي حَقِّ الْقَارِنِ وَالْمُتَمَتِّعِ ، وَعَلَى تَقْدِيرِ اسْتِحْبَابِهَا فِي حَقِّهِ ، فَأَيْنَ ثَوَابُهَا مِنْ ثَوَابِ
nindex.php?page=treesubj&link=3745_3757هَدْيِ الْمُتَمَتِّعِ وَالْقَارِنِ ؟
الْوَجْهُ الثَّانِي : إِنَّهُ لَوْ كَانَ دَمَ جُبْرَانٍ ، لَمَا جَازَ الْأَكْلُ مِنْهُ ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ أَكَلَ مِنْ هَدْيِهِ ، فَإِنَّهُ أَمَرَ مِنْ كُلِّ بَدَنَةٍ بِبَضْعَةٍ فَجُعِلَتْ فِي قِدْرٍ ،
[ ص: 205 ] فَأَكَلَ مِنْ لَحْمِهَا ، وَشَرِبَ مِنْ مَرَقِهَا . وَإِنْ كَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ سُبْعَ بَدَنَةٍ ، فَإِنَّهُ أَكَلَ مِنْ كُلِّ بَدَنَةٍ مِنَ الْمِائَةِ ، وَالْوَاجِبُ فِيهَا مُشَاعٌ لَمْ يَتَعَيَّنْ بِقِسْمَةٍ .
وَأَيْضًا : فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " :
nindex.php?page=hadith&LINKID=16001219أَنَّهُ nindex.php?page=treesubj&link=3752أَطْعَمَ نِسَاءَهُ مِنَ الْهَدْيِ الَّذِي ذَبَحَهُ عَنْهُنَّ وَكُنَّ مُتَمَتِّعَاتٍ ، احْتَجَّ بِهِ
nindex.php?page=showalam&ids=12251الْإِمَامُ أَحْمَدُ ، فَثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=25عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - ،
nindex.php?page=hadith&LINKID=16001220أَنَّهُ أَهْدَى عَنْ نِسَائِهِ ، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيْهِنَّ مِنَ الْهَدْيِ الَّذِي ذَبَحَهُ عَنْهُنَّ . وَأَيْضًا : فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ فِيمَا يُذْبَحُ
بِمِنًى مِنَ الْهَدْيِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=28فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ) [ الْحَجِّ : 28 ] وَهَذَا يَتَنَاوَلُ هَدْيَ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ قَطْعًا إِنْ لَمْ يَخْتَصَّ بِهِ ، فَإِنَّ الْمَشْرُوعَ هُنَاكَ ذَبْحُ هَدْيِ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ .
وَمِنْ هَاهُنَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، مِنْ كُلِّ بَدَنَةٍ بِبَضْعَةٍ ، فَجُعِلَتْ فِي قِدْرٍ امْتِثَالًا لِأَمْرِ رَبِّهِ بِالْأَكْلِ لِيَعُمَّ بِهِ جَمِيعَ هَدْيِهِ .
الْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّ سَبَبَ الْجُبْرَانِ مَحْظُورٌ فِي الْأَصْلِ ، فَلَا يَجُوزُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ إِلَّا لِعُذْرٍ ، فَإِنَّهُ إِمَّا تَرْكُ وَاجِبٍ ، أَوْ فِعْلُ مَحْظُورٍ ، وَالتَّمَتُّعُ مَأْمُورٌ بِهِ ، إِمَّا أَمْرَ إِيجَابٍ عِنْدَ طَائِفَةٍ
nindex.php?page=showalam&ids=11كَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ ، أَوْ أَمْرَ اسْتِحْبَابٍ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ ، فَلَوْ كَانَ دَمُهُ دَمَ جُبْرَانٍ ، لَمْ يَجُزِ الْإِقْدَامُ عَلَى سَبَبِهِ بِغَيْرِ عُذْرٍ ، فَبَطَلَ قَوْلُهُمْ إِنَّهُ دَمُ جُبْرَانٍ ، وَعُلِمَ أَنَّهُ دَمُ نُسُكٍ ، وَهَذَا وَسَّعَ اللَّهُ بِهِ عَلَى عِبَادِهِ ، وَأَبَاحَ لَهُمْ بِسَبَبِهِ التَّحَلُّلَ فِي أَثْنَاءِ الْإِحْرَامِ لِمَا فِي اسْتِمْرَارِ الْإِحْرَامِ عَلَيْهِمْ مِنَ الْمَشَقَّةِ ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْقَصْرِ وَالْفِطْرِ فِي السَّفَرِ ، وَبِمَنْزِلَةِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ ، وَكَانَ مِنْ هَدْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، وَهَدْيِ أَصْحَابِهِ فِعْلُ هَذَا وَهَذَا ، "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16001221وَاللَّهُ تَعَالَى يُحِبُّ أَنْ يُؤْخَذَ بِرُخَصِهِ ، كَمَا يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيَتُهُ ". فَمَحَبَّتُهُ لِأَخْذِ الْعَبْدِ بِمَا يَسَّرَهُ عَلَيْهِ
[ ص: 206 ] وَسَهَّلَهُ لَهُ ، مِثْلُ كَرَاهَتِهِ مِنْهُ لِارْتِكَابِ مَا حَرَّمَهُ عَلَيْهِ وَمَنَعَهُ مِنْهُ . وَالْهَدْيُ وَإِنْ كَانَ بَدَلًا عَنْ تَرَفُّهِهِ بِسُقُوطِ أَحَدِ السَّفَرَيْنِ ، فَهُوَ أَفْضَلُ لِمَنْ قَدِمَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ أَنْ يَأْتِيَ بِحَجٍّ مُفْرَدٍ وَيَعْتَمِرَ عَقِيبَهُ ، وَالْبَدَلُ قَدْ يَكُونُ وَاجِبًا كَالْجُمُعَةِ عِنْدَ مَنْ جَعَلَهَا بَدَلًا ،
nindex.php?page=treesubj&link=319وَكَالتَّيَمُّمِ لِلْعَاجِزِ عَنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فَإِنَّهُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ وَهُوَ بَدَلٌ ، فَإِذَا كَانَ الْبَدَلُ قَدْ يَكُونُ وَاجِبًا ، فَكَوْنُهُ مُسْتَحَبًّا أَوْلَى بِالْجَوَازِ وَتَخَلُّلُ التَّحَلُّلِ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ الْجَمِيعُ عِبَادَةً وَاحِدَةً كَطَوَافِ الْإِفَاضَةِ ، فَإِنَّهُ رُكْنٌ بِالِاتِّفَاقِ ، وَلَا يُفْعَلُ إِلَّا بَعْدَ التَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ ، وَكَذَلِكَ رَمْيُ الْجِمَارِ أَيَّامَ مِنًى ، وَهُوَ يُفْعَلُ بَعْدَ الْحِلِّ التَّامِّ ، وَصَوْمُ رَمَضَانَ يَتَخَلُّلُهُ الْفِطْرُ فِي لَيَالِيِهِ ، وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ عِبَادَةً وَاحِدَةً .
وَلِهَذَا قَالَ
مالك وَغَيْرُهُ إِنَّهُ يُجْزِئُ بِنِيَّةٍ وَاحِدَةٍ لِلشَّهْرِ كُلِّهِ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ وَاحِدَةٌ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .