المسألة الخامسة : هذه الآية دالة على أن
nindex.php?page=treesubj&link=26502_21370_21709الكتاب والسنة مقدمان على القياس مطلقا ، فلا يجوز ترك العمل بهما بسبب القياس ، ولا يجوز تخصيصهما بسبب القياس البتة ، سواء كان القياس جليا أو خفيا ، سواء كان ذلك النص مخصوصا قبل ذلك أم لا ، ويدل عليه أنا بينا أن قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=59أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ) أمر بطاعة الكتاب والسنة ، وهذا الأمر مطلق ، فثبت أن متابعة الكتاب والسنة - سواء حصل قياس يعارضهما أو يخصصهما أو لم يوجد - واجبة ، ومما يؤكد ذلك وجوه أخرى :
أحدها : أن كلمة " إن " على قول كثير من الناس للاشتراط ، وعلى هذا المذهب كان قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=59فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ) صريحا في أنه
nindex.php?page=treesubj&link=21704لا يجوز العدول إلى القياس إلا عند فقدان الأصول .
الثاني : أنه تعالى أخر ذكر القياس عن ذكر الأصول الثلاثة ، وهذا مشعر بأن العمل به مؤخر عن الأصول الثلاثة .
الثالث : أنه - صلى الله عليه وسلم - اعتبر هذا الترتيب في قصة
معاذ حيث أخر الاجتهاد عن الكتاب ، وعلق جوازه على عدم وجدان الكتاب والسنة بقوله : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16012408فإن لم تجد " .
الرابع : أنه تعالى أمر الملائكة بالسجود
لآدم حيث قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=34وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس ) [ البقرة : 34 ] ثم إن إبليس لم يدفع هذا النص بالكلية ، بل خصص نفسه عن ذلك العموم بقياس هو قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=76خلقتني من نار وخلقته من طين ) [ ص : 76 ] ثم أجمع العقلاء على أنه جعل القياس مقدما على النص ، وصار بذلك السبب ملعونا ، وهذا يدل على أن تخصيص النص بالقياس تقديم للقياس على النص ، وأنه غير جائز .
الخامس : أن
nindex.php?page=treesubj&link=29586_21702القرآن مقطوع في متنه ؛ لأنه ثبت بالتواتر ، والقياس ليس كذلك ، بل هو مظنون من جميع الجهات ، والمقطوع
[ ص: 119 ] راجح على المظنون .
السادس : قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=45ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون ) [ المائدة : 45 ] وإذا وجدنا عموم الكتاب حاصلا في الواقعة ثم إنا لا نحكم به بل حكمنا بالقياس لزم الدخول تحت هذا العموم .
السابع : قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=1ياأيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله ) [ الحجرات : 1 ] فإذا كان عموم القرآن حاضرا ، ثم قدمنا القياس المخصص لزم التقديم بين يدي الله ورسوله .
الثامن : قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=148سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ) [ الأنعام : 148 ] إلى قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=148إن تتبعون إلا الظن ) [الأنعام : 148 ] جعل
nindex.php?page=treesubj&link=18793اتباع الظن من صفات الكفار ، ومن الموجبات القوية في مذمتهم ، فهذا يقتضي أن لا يجوز العمل بالقياس البتة . ترك هذا النص لما بينا أنه يدل على جواز العمل بالقياس ، لكنه إنما دل على ذلك عند فقدان النصوص ، فوجب عند وجدانها أن يبقى على الأصل .
التاسع : أنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16012409إذا روي عني حديث فاعرضوه على كتاب الله فإن وافقه فاقبلوه وإلا ذروه " ولا شك أن الحديث أقوى من القياس ، فإذا كان الحديث الذي لا يوافقه الكتاب مردودا فالقياس أولى به .
العاشر : أن القرآن كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ، والقياس يفرق عقل الإنسان الضعيف ، وكل من له عقل سليم علم أن الأول أقوى بالمتابعة وأحرى .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=26502_21370_21709الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ مُقَدَّمَانِ عَلَى الْقِيَاسِ مُطْلَقًا ، فَلَا يَجُوزُ تَرْكُ الْعَمَلِ بِهِمَا بِسَبَبِ الْقِيَاسِ ، وَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُمَا بِسَبَبِ الْقِيَاسِ الْبَتَّةَ ، سَوَاءٌ كَانَ الْقِيَاسُ جَلِيًّا أَوْ خَفِيًّا ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ النَّصُّ مَخْصُوصًا قَبْلَ ذَلِكَ أَمْ لَا ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=59أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ) أَمْرٌ بِطَاعَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، وَهَذَا الْأَمْرُ مُطْلَقٌ ، فَثَبَتَ أَنَّ مُتَابَعَةَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ - سَوَاءٌ حَصَلَ قِيَاسٌ يُعَارِضُهُمَا أَوْ يُخَصِّصُهُمَا أَوْ لَمْ يُوجَدْ - وَاجِبَةٌ ، وَمِمَّا يُؤَكِّدُ ذَلِكَ وُجُوهٌ أُخْرَى :
أَحَدُهَا : أَنَّ كَلِمَةَ " إِنَّ " عَلَى قَوْلِ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ لِلِاشْتِرَاطِ ، وَعَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ كَانَ قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=59فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ) صَرِيحًا فِي أَنَّهُ
nindex.php?page=treesubj&link=21704لَا يَجُوزُ الْعُدُولُ إِلَى الْقِيَاسِ إِلَّا عِنْدَ فِقْدَانِ الْأُصُولِ .
الثَّانِي : أَنَّهُ تَعَالَى أَخَّرَ ذِكْرَ الْقِيَاسِ عَنْ ذِكْرِ الْأُصُولِ الثَّلَاثَةِ ، وَهَذَا مُشْعِرٌ بِأَنَّ الْعَمَلَ بِهِ مُؤَخَّرٌ عَنِ الْأُصُولِ الثَّلَاثَةِ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعْتَبَرَ هَذَا التَّرْتِيبَ فِي قِصَّةِ
مُعَاذٍ حَيْثُ أَخَّرَ الِاجْتِهَادَ عَنِ الْكِتَابِ ، وَعَلَّقَ جَوَازَهُ عَلَى عَدَمِ وِجْدَانِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِقَوْلِهِ : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16012408فَإِنْ لَمْ تَجِدْ " .
الرَّابِعُ : أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ
لِآدَمَ حَيْثُ قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=34وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ ) [ الْبَقَرَةِ : 34 ] ثُمَّ إِنَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَدْفَعْ هَذَا النَّصَّ بِالْكُلِّيَّةِ ، بَلْ خَصَّصَ نَفْسَهُ عَنْ ذَلِكَ الْعُمُومِ بِقِيَاسٍ هُوَ قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=76خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ) [ ص : 76 ] ثُمَّ أَجْمَعَ الْعُقَلَاءُ عَلَى أَنَّهُ جَعَلَ الْقِيَاسَ مُقَدَّمًا عَلَى النَّصِّ ، وَصَارَ بِذَلِكَ السَّبَبِ مَلْعُونًا ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَخْصِيصَ النَّصِّ بِالْقِيَاسِ تَقْدِيمٌ لِلْقِيَاسِ عَلَى النَّصِّ ، وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ .
الْخَامِسُ : أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=29586_21702الْقُرْآنَ مَقْطُوعٌ فِي مَتْنِهِ ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ ، وَالْقِيَاسُ لَيْسَ كَذَلِكَ ، بَلْ هُوَ مَظْنُونٌ مِنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ ، وَالْمَقْطُوعُ
[ ص: 119 ] رَاجِحٌ عَلَى الْمَظْنُونِ .
السَّادِسُ : قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=45وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) [ الْمَائِدَةِ : 45 ] وَإِذَا وَجَدْنَا عُمُومَ الْكِتَابِ حَاصِلًا فِي الْوَاقِعَةِ ثُمَّ إِنَّا لَا نَحْكُمُ بِهِ بَلْ حَكَمْنَا بِالْقِيَاسِ لَزِمَ الدُّخُولُ تَحْتَ هَذَا الْعُمُومِ .
السَّابِعُ : قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=1يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ) [ الْحُجُرَاتِ : 1 ] فَإِذَا كَانَ عُمُومُ الْقُرْآنِ حَاضِرًا ، ثُمَّ قَدَّمْنَا الْقِيَاسَ الْمُخَصَّصَ لَزِمَ التَّقْدِيمُ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ .
الثَّامِنُ : قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=148سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ ) [ الْأَنْعَامِ : 148 ] إِلَى قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=148إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ ) [الْأَنْعَامِ : 148 ] جَعَلَ
nindex.php?page=treesubj&link=18793اتِّبَاعَ الظَّنِّ مِنْ صِفَاتِ الْكُفَّارِ ، وَمِنَ الْمُوجِبَاتِ الْقَوِيَّةِ فِي مَذَمَّتِهِمْ ، فَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يَجُوزَ الْعَمَلُ بِالْقِيَاسِ الْبَتَّةَ . تُرِكَ هَذَا النَّصُّ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ ، لَكِنَّهُ إِنَّمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ فِقْدَانِ النُّصُوصِ ، فَوَجَبَ عِنْدَ وِجْدَانِهَا أَنْ يَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ .
التَّاسِعُ : أَنَّهُ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16012409إِذَا رُوِيَ عَنِّي حَدِيثٌ فَاعْرِضُوهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ فَإِنْ وَافَقَهُ فَاقْبَلُوهُ وَإِلَّا ذَرُوهُ " وَلَا شَكَّ أَنَّ الْحَدِيثَ أَقْوَى مِنَ الْقِيَاسِ ، فَإِذَا كَانَ الْحَدِيثُ الَّذِي لَا يُوَافِقُهُ الْكِتَابُ مَرْدُودًا فَالْقِيَاسُ أَوْلَى بِهِ .
الْعَاشِرُ : أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ، وَالْقِيَاسُ يُفَرِّقُ عَقْلَ الْإِنْسَانِ الضَّعِيفِ ، وَكُلُّ مَنْ لَهُ عَقْلٌ سَلِيمٌ عَلِمَ أَنَّ الْأَوَّلَ أَقْوَى بِالْمُتَابَعَةِ وَأَحْرَى .