أما في الاعتقادات فبيانه من وجوه :
( الأول ) : أن
nindex.php?page=treesubj&link=28719_28717من توغل في التنزيه وقع في التعطيل ونفي الصفات ، ومن توغل في الإثبات وقع في التشبيه وإثبات الجسمية والمكان ، فهما طرفان معوجان ، والصراط المستقيم الإقرار الخالي عن التشبيه والتعطيل .
( والثاني ) : أن من
nindex.php?page=treesubj&link=30239_28785قال : فعل العبد كله منه ، فقد وقع في القدر ، ومن
nindex.php?page=treesubj&link=28836_28785قال : لا فعل للعبد ، فقد وقع في الجبر ، وهما طرفان معوجان ، والصراط المستقيم إثبات الفعل للعبد مع الإقرار بأن الكل بقضاء الله ، وأما في الأعمال فنقول : من بالغ في الأعمال الشهوانية وقع في الفجور ، ومن بالغ في تركها وقع في الجمود ، والصراط المستقيم هو الوسط ، وهو العفة ، وأيضا من بالغ في الأعمال الغضبية وقع في التهور ، ومن بالغ في تركها وقع في الجبن ، والصراط المستقيم هو الوسط ، وهو الشجاعة .
اللطيفة الثانية : أن ذلك الصراط المستقيم وصفه بصفتين أولاهما إيجابية ، والأخرى سلبية ، أما الإيجابية فكون ذلك الصراط صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، وأما السلبية فهي أن تكون بخلاف صراط الذين فسدت قواهم العملية بارتكاب الشهوات حتى استوجبوا غضب الله عليهم ، وبخلاف صراط الذين فسدت قواهم النظرية حتى ضلوا عن العقائد الحقية والمعارف اليقينية .
اللطيفة الثالثة : قال بعضهم : إنه لما
nindex.php?page=treesubj&link=28972_32050قال : ( nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=6اهدنا الصراط المستقيم ) لم يقتصر عليه ، بل قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=7صراط الذين أنعمت عليهم ) وهذا يدل على أن المريد لا سبيل له إلى الوصول إلى مقامات الهداية والمكاشفة إلا إذا اقتدى بشيخ يهديه إلى سواء السبيل ويجنبه عن مواقع الأغاليط والأضاليل ، وذلك لأن النقص غالب على أكثر الخلق ، وعقولهم غير وافية بإدراك الحق وتمييز الصواب عن الغلط ، فلا بد من كامل يقتدي به الناقص حتى يتقوى عقل ذلك الناقص بنور عقل ذلك الكامل ؛ فحينئذ يصل إلى مدارج السعادات ومعارج الكمالات .
[ ص: 153 ] وقد ظهر بما ذكرنا أن هذه السورة وافية ببيان ما يجب معرفته من عهد الربوبية وعهد العبودية المذكورين في قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=40وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم ) [ البقرة : 40 ] .
المسألة الثانية : في تقرير مشرع آخر من لطائف هذه السورة :
اعلم أن أحوال هذا العالم ممزوجة بالخير والشر والمحبوب والمكروه ، وهذه المعاني ظاهرة لا شك فيها ، إلا أن نقول : الشر وإن كان كثيرا إلا أن الخير أكثر ، والمرض وإن كان كثيرا إلا أن الصحة أكثر منه ، والجوع وإن كان كثيرا إلا أن الشبع أكثر منه ، وإذا كان الأمر كذلك فكل عاقل اعتبر أحوال نفسه فإنه يجدها دائما في التغيرات والانتقال من حال إلى حال ، ثم إنه يجد الغالب في تلك التغيرات هو السلامة والكرامة والراحة والبهجة ، أما الأحوال المكروهة فهي وإن كانت كثيرة إلا أنها أقل من أحوال اللذة والبهجة والراحة ، إذا عرفت هذا فنقول : إن تلك التغيرات لأجل أنها تقتضي حدوث أمر بعد عدمه تدل على وجود الإله القادر ، ولأجل أن الغالب فيها الراحة والخير تدل على أن ذلك الإله رحيم محسن كريم ، أما
nindex.php?page=treesubj&link=28659دلالة التغيرات على وجود الإله فلأن الفطرة السليمة تشهد بأن كل شيء وجد بعد العدم فإنه لا بد له من سبب ؛ ولذلك فإنا إذا سمعنا أن بيتا حدث بعد أن لم يكن فإن صريح العقل شاهد بأنه لا بد من فاعل تولى بناء ذلك البيت ، ولو أن إنسانا شككنا فيه لم نتشكك ، فإنه لا بد وأن يكون فاعل تلك الأحوال المتغيرة قادرا ، إذ لو كان موجبا بالذات لدام الأثر بدوامه ، فحدوث الأثر بعد عدمه يدل على وجود مؤثر قادر ، وأما دلالة تلك التغيرات على كون المؤثر رحيما محسنا ؛ فلأنا بينا أن الغالب في تلك التغيرات هو الراحة والخير والبهجة والسلامة ، ومن كان غالب أفعاله راحة وخيرا وكرامة وسلامة كان رحيما محسنا ، ومن كان كذلك كان مستحقا للحمد ، ولما كانت هذه الأحوال معلومة لكل أحد وحاضرة في عقل كل أحد عاقل كان موجب حمد الله وثنائه حاضرا في عقل كل أحد ؛ فلهذا السبب علمهم كيفية الحمد فقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=2الحمد لله ) ولما نبه على هذا المقام نبه على مقام آخر أعلى وأعظم من الأول ، وكأنه قيل : لا ينبغي أن تعتقد أن الإله الذي اشتغلت بحمده هو إلهك فقط ، بل هو إله كل العالمين ، وذلك لأنك إنما حكمت بافتقار نفسك إلى الإله لما حصل فيك من الفقر والحاجة والحدوث والإمكان ، وهذه المعاني قائمة في كل العالمين ، فإنها محل الحركات والسكنات وأنواع التغيرات ، فتكون علة احتياجك إلى الإله المدبر قائمة فيها ، وإذا حصل الاشتراك في العلة وجب أن يحصل الاشتراك في المعلول ، فهذا يقتضي كونه ربا للعالمين ، وإلها للسماوات والأرضين ، ومدبرا لكل الخلائق أجمعين ، ولما تقرر هذا المعنى ظهر أن الموجود الذي يقدر على خلق هذه العوالم على عظمتها ، ويقدر على خلق العرش والكرسي والسماوات والكواكب لا بد وأن يكون قادرا على إهلاكها ، ولا بد وأن يكون غنيا عنها ، فهذا القادر القاهر الغني يكون في غاية العظمة والجلال ، وحينئذ يقع في قلب العبد أني مع نهاية ذلتي وحقارتي كيف يمكنني أن أتقرب إليه ، وبأي طريق أتوسل إليه ، فعند هذا ذكر الله ما يجري مجرى العلاج الموافق لهذا المرض ، فكأنه قال : أيها العبد الضعيف ، أنا وإن كنت عظيم القدرة والهيبة والإلهية إلا أني مع ذلك عظيم الرحمة ، فأنا الرحمن الرحيم وأنا مالك يوم الدين ، فما دمت في هذه الحياة الدنيا لا أخليك عن أقسام رحمتي وأنواع نعمتي ، وإذا مت فأنا مالك يوم الدين ، لا أضيع عملا من أعمالك ، فإن أتيتني بالخير قابلت الخير الواحد بما لا نهاية له من الخيرات ، وإن أتيتني بالمعصية قابلتها بالصفح والإحسان والمغفرة .
أَمَّا فِي الِاعْتِقَادَاتِ فَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ :
( الْأَوَّلُ ) : أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=28719_28717مَنْ تَوَغَّلَ فِي التَّنْزِيهِ وَقَعَ فِي التَّعْطِيلِ وَنَفْيِ الصِّفَاتِ ، وَمَنْ تَوَغَّلَ فِي الْإِثْبَاتِ وَقَعَ فِي التَّشْبِيهِ وَإِثْبَاتِ الْجِسْمِيَّةِ وَالْمَكَانِ ، فَهُمَا طَرَفَانِ مُعْوَجَّانِ ، وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ الْإِقْرَارُ الْخَالِي عَنِ التَّشْبِيهِ وَالتَّعْطِيلِ .
( وَالثَّانِي ) : أَنَّ مَنْ
nindex.php?page=treesubj&link=30239_28785قَالَ : فِعْلُ الْعَبْدِ كُلُّهُ مِنْهُ ، فَقَدْ وَقَعَ فِي الْقَدَرِ ، وَمَنْ
nindex.php?page=treesubj&link=28836_28785قَالَ : لَا فِعْلَ لِلْعَبْدِ ، فَقَدْ وَقَعَ فِي الْجَبْرِ ، وَهُمَا طَرَفَانِ مُعْوَجَّانِ ، وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ إِثْبَاتُ الْفِعْلِ لِلْعَبْدِ مَعَ الْإِقْرَارِ بِأَنَّ الْكُلَّ بِقَضَاءِ اللَّهِ ، وَأَمَّا فِي الْأَعْمَالِ فَنَقُولُ : مَنْ بَالَغَ فِي الْأَعْمَالِ الشَّهْوَانِيَّةِ وَقَعَ فِي الْفُجُورِ ، وَمَنْ بَالَغَ فِي تَرْكِهَا وَقَعَ فِي الْجُمُودِ ، وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ هُوَ الْوَسَطُ ، وَهُوَ الْعِفَّةُ ، وَأَيْضًا مَنْ بَالَغَ فِي الْأَعْمَالِ الْغَضَبِيَّةِ وَقَعَ فِي التَّهَوُّرِ ، وَمَنْ بَالَغَ فِي تَرْكِهَا وَقَعَ فِي الْجُبْنِ ، وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ هُوَ الْوَسَطُ ، وَهُوَ الشَّجَاعَةُ .
اللَّطِيفَةُ الثَّانِيَةُ : أَنَّ ذَلِكَ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ وَصَفَهُ بِصِفَتَيْنِ أُولَاهُمَا إِيجَابِيَّةٌ ، وَالْأُخْرَى سَلْبِيَّةٌ ، أَمَّا الْإِيجَابِيَّةُ فَكَوْنُ ذَلِكَ الصِّرَاطِ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ، وَأَمَّا السَّلْبِيَّةُ فَهِيَ أَنْ تَكُونَ بِخِلَافِ صِرَاطِ الَّذِينَ فَسَدَتْ قُوَاهُمُ الْعَمَلِيَّةُ بِارْتِكَابِ الشَّهَوَاتِ حَتَّى اسْتَوْجَبُوا غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ ، وَبِخِلَافِ صِرَاطِ الَّذِينَ فَسَدَتْ قُوَاهُمُ النَّظَرِيَّةُ حَتَّى ضَلُّوا عَنِ الْعَقَائِدِ الْحَقِّيَّةِ وَالْمَعَارِفِ الْيَقِينِيَّةِ .
اللَّطِيفَةُ الثَّالِثَةُ : قَالَ بَعْضُهُمْ : إِنَّهُ لَمَّا
nindex.php?page=treesubj&link=28972_32050قَالَ : ( nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=6اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَيْهِ ، بَلْ قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=7صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ) وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرِيدَ لَا سَبِيلَ لَهُ إِلَى الْوُصُولِ إِلَى مَقَامَاتِ الْهِدَايَةِ وَالْمُكَاشَفَةِ إِلَّا إِذَا اقْتَدَى بِشَيْخٍ يَهْدِيهِ إِلَى سَوَاءِ السَّبِيلِ وَيُجَنِّبُهُ عَنْ مَوَاقِعِ الْأَغَالِيطِ وَالْأَضَالِيلِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّقْصَ غَالِبٌ عَلَى أَكْثَرِ الْخَلْقِ ، وَعُقُولَهُمْ غَيْرُ وَافِيَةٍ بِإِدْرَاكِ الْحَقِّ وَتَمْيِيزِ الصَّوَابِ عَنِ الْغَلَطِ ، فَلَا بُدَّ مِنْ كَامِلٍ يَقْتَدِي بِهِ النَّاقِصُ حَتَّى يَتَقَوَّى عَقْلُ ذَلِكَ النَّاقِصِ بِنُورِ عَقْلِ ذَلِكَ الْكَامِلِ ؛ فَحِينَئِذٍ يَصِلُ إِلَى مَدَارِجِ السَّعَادَاتِ وَمَعَارِجِ الْكَمَالَاتِ .
[ ص: 153 ] وَقَدْ ظَهَرَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ وَافِيَةٌ بِبَيَانِ مَا يَجِبُ مَعْرِفَتُهُ مِنْ عَهْدِ الرُّبُوبِيَّةِ وَعَهْدِ الْعُبُودِيَّةِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=40وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ) [ الْبَقَرَةِ : 40 ] .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي تَقْرِيرِ مُشَرِّعٍ آخَرَ مِنْ لَطَائِفِ هَذِهِ السُّورَةِ :
اعْلَمْ أَنَّ أَحْوَالَ هَذَا الْعَالَمِ مَمْزُوجَةٌ بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَالْمَحْبُوبِ وَالْمَكْرُوهِ ، وَهَذِهِ الْمَعَانِي ظَاهِرَةٌ لَا شَكَّ فِيهَا ، إِلَّا أَنْ نَقُولَ : الشَّرُّ وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا إِلَّا أَنَّ الْخَيْرَ أَكْثَرُ ، وَالْمَرَضُ وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا إِلَّا أَنَّ الصِّحَّةَ أَكْثَرُ مِنْهُ ، وَالْجُوعُ وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا إِلَّا أَنَّ الشِّبَعَ أَكْثَرُ مِنْهُ ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَكُلُّ عَاقِلٍ اعْتَبَرَ أَحْوَالَ نَفْسِهِ فَإِنَّهُ يَجِدُهَا دَائِمًا فِي التَّغَيُّرَاتِ وَالِانْتِقَالِ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ ، ثُمَّ إِنَّهُ يَجِدُ الْغَالِبَ فِي تِلْكَ التَّغَيُّرَاتِ هُوَ السَّلَامَةُ وَالْكَرَامَةُ وَالرَّاحَةُ وَالْبَهْجَةُ ، أَمَّا الْأَحْوَالُ الْمَكْرُوهَةُ فَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ كَثِيرَةٌ إِلَّا أَنَّهَا أَقَلُّ مِنْ أَحْوَالِ اللَّذَّةِ وَالْبَهْجَةِ وَالرَّاحَةِ ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ : إِنَّ تِلْكَ التَّغَيُّرَاتِ لِأَجْلِ أَنَّهَا تَقْتَضِي حُدُوثَ أَمْرٍ بَعْدَ عَدَمِهِ تَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الْإِلَهِ الْقَادِرِ ، وَلِأَجْلِ أَنَّ الْغَالِبَ فِيهَا الرَّاحَةُ وَالْخَيْرُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْإِلَهَ رَحِيمٌ مُحْسِنٌ كَرِيمٌ ، أَمَّا
nindex.php?page=treesubj&link=28659دَلَالَةُ التَّغَيُّرَاتِ عَلَى وُجُودِ الْإِلَهِ فَلِأَنَّ الْفِطْرَةَ السَّلِيمَةَ تَشْهَدُ بِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ وُجِدَ بَعْدَ الْعَدَمِ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ سَبَبٍ ؛ وَلِذَلِكَ فَإِنَّا إِذَا سَمِعْنَا أَنَّ بَيْتًا حَدَثَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ فَإِنَّ صَرِيحَ الْعَقْلِ شَاهِدٌ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ فَاعِلٍ تَوَلَّى بِنَاءَ ذَلِكَ الْبَيْتِ ، وَلَوْ أَنَّ إِنْسَانًا شَكَّكَنَا فِيهِ لَمْ نَتَشَكَّكْ ، فَإِنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ فَاعِلُ تِلْكَ الْأَحْوَالِ الْمُتَغَيِّرَةِ قَادِرًا ، إِذْ لَوْ كَانَ مُوجِبًا بِالذَّاتِ لَدَامَ الْأَثَرُ بِدَوَامِهِ ، فَحُدُوثُ الْأَثَرِ بَعْدَ عَدَمِهِ يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ مُؤَثِّرٍ قَادِرٍ ، وَأَمَّا دَلَالَةُ تِلْكَ التَّغَيُّرَاتِ عَلَى كَوْنِ الْمُؤَثِّرِ رَحِيمًا مُحْسِنًا ؛ فَلِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْغَالِبَ فِي تِلْكَ التَّغَيُّرَاتِ هُوَ الرَّاحَةُ وَالْخَيْرُ وَالْبَهْجَةُ وَالسَّلَامَةُ ، وَمَنْ كَانَ غَالِبُ أَفْعَالِهِ رَاحَةً وَخَيْرًا وَكَرَامَةً وَسَلَامَةً كَانَ رَحِيمًا مُحْسِنًا ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ مُسْتَحِقًّا لِلْحَمْدِ ، وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْأَحْوَالُ مَعْلُومَةً لِكُلِّ أَحَدٍ وَحَاضِرَةً فِي عَقْلِ كُلِّ أَحَدٍ عَاقِلٍ كَانَ مُوجِبُ حَمْدِ اللَّهِ وَثَنَائِهِ حَاضِرًا فِي عَقْلِ كُلِّ أَحَدٍ ؛ فَلِهَذَا السَّبَبِ عَلَّمَهُمْ كَيْفِيَّةَ الْحَمْدِ فَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=2الْحَمْدُ لِلَّهِ ) وَلَمَّا نَبَّهَ عَلَى هَذَا الْمَقَامِ نَبَّهَ عَلَى مَقَامٍ آخَرَ أَعْلَى وَأَعْظَمَ مِنَ الْأَوَّلِ ، وَكَأَنَّهُ قِيلَ : لَا يَنْبَغِي أَنْ تَعْتَقِدَ أَنَّ الْإِلَهَ الَّذِي اشْتَغَلْتَ بِحَمْدِهِ هُوَ إِلَهُكَ فَقَطْ ، بَلْ هُوَ إِلَهُ كُلِّ الْعَالَمِينَ ، وَذَلِكَ لِأَنَّكَ إِنَّمَا حَكَمْتَ بِافْتِقَارِ نَفْسِكَ إِلَى الْإِلَهِ لَمَّا حَصَلَ فِيكَ مِنَ الْفَقْرِ وَالْحَاجَةِ وَالْحُدُوثِ وَالْإِمْكَانِ ، وَهَذِهِ الْمَعَانِي قَائِمَةٌ فِي كُلِّ الْعَالَمِينَ ، فَإِنَّهَا مَحَلُّ الْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ وَأَنْوَاعِ التَّغَيُّرَاتِ ، فَتَكُونُ عِلَّةُ احْتِيَاجِكَ إِلَى الْإِلَهِ الْمُدَبِّرِ قَائِمَةً فِيهَا ، وَإِذَا حَصَلَ الِاشْتِرَاكُ فِي الْعِلَّةِ وَجَبَ أَنْ يَحْصُلَ الِاشْتِرَاكُ فِي الْمَعْلُولِ ، فَهَذَا يَقْتَضِي كَوْنَهُ رَبًّا لِلْعَالَمِينَ ، وَإِلَهًا لِلسَّمَاوَاتِ وَالْأَرَضِينَ ، وَمُدَبِّرًا لِكُلِّ الْخَلَائِقِ أَجْمَعِينَ ، وَلَمَّا تَقَرَّرَ هَذَا الْمَعْنَى ظَهَرَ أَنَّ الْمَوْجُودَ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى خَلْقِ هَذِهِ الْعَوَالِمِ عَلَى عَظَمَتِهَا ، وَيَقْدِرُ عَلَى خَلْقِ الْعَرْشِ وَالْكُرْسِيِّ وَالسَّمَاوَاتِ وَالْكَوَاكِبِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى إِهْلَاكِهَا ، وَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ غَنِيًّا عَنْهَا ، فَهَذَا الْقَادِرُ الْقَاهِرُ الْغَنِيُّ يَكُونُ فِي غَايَةِ الْعَظَمَةِ وَالْجَلَالِ ، وَحِينَئِذٍ يَقَعُ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ أَنِّي مَعَ نِهَايَةِ ذِلَّتِي وَحَقَارَتِي كَيْفَ يُمْكِنُنِي أَنْ أَتَقَرَّبَ إِلَيْهِ ، وَبِأَيِّ طَرِيقٍ أَتَوَسَّلُ إِلَيْهِ ، فَعِنْدَ هَذَا ذَكَرَ اللَّهُ مَا يَجْرِي مَجْرَى الْعِلَاجِ الْمُوَافِقِ لِهَذَا الْمَرَضِ ، فَكَأَنَّهُ قَالَ : أَيُّهَا الْعَبْدُ الضَّعِيفُ ، أَنَا وَإِنْ كُنْتُ عَظِيمَ الْقُدْرَةِ وَالْهَيْبَةِ وَالْإِلَهِيَّةِ إِلَّا أَنِّي مَعَ ذَلِكَ عَظِيمُ الرَّحْمَةِ ، فَأَنَا الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ وَأَنَا مَالِكُ يَوْمِ الدِّينِ ، فَمَا دُمْتَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لَا أُخَلِّيكَ عَنْ أَقْسَامِ رَحْمَتِي وَأَنْوَاعِ نِعْمَتِي ، وَإِذَا مِتَّ فَأَنَا مَالِكُ يَوْمِ الدِّينِ ، لَا أُضِيعُ عَمَلًا مِنْ أَعْمَالِكَ ، فَإِنْ أَتَيْتَنِي بِالْخَيْرِ قَابَلْتُ الْخَيْرَ الْوَاحِدَ بِمَا لَا نِهَايَةَ لَهُ مِنَ الْخَيْرَاتِ ، وَإِنْ أَتَيْتَنِي بِالْمَعْصِيَةِ قَابَلْتُهَا بِالصَّفْحِ وَالْإِحْسَانِ وَالْمَغْفِرَةِ .