(
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=106اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=107ولو شاء الله ما أشركوا وما جعلناك عليهم حفيظا وما أنت عليهم بوكيل ) .
قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=106اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين ) .
اعلم أنه تعالى لما حكى عن الكفار أنهم ينسبونه في إظهار هذا القرآن إلى الافتراء ، أو إلى أنه يدارس أقواما ويستفيد هذه العلوم منهم ثم ينظمها قرآنا ، ويدعي أنه نزل عليه من الله تعالى ، أتبعه بقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=106اتبع ما أوحي إليك من ربك )
[ ص: 113 ] لئلا يصير ذلك القول سببا لفتوره في تبليغ الدعوة والرسالة ، والمقصود
nindex.php?page=treesubj&link=30614_32024تقوية قلبه وإزالة الحزن الذي حصل بسبب سماع تلك الشبهة ، ونبه بقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=106لا إله إلا هو ) على أنه تعالى لما كان واحدا في الإلهية فإنه يجب طاعته ، ولا يجوز الإعراض عن تكاليفه بسبب جهل الجاهلين وزيغ الزائغين .
وأما قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=106وأعرض عن المشركين ) فقيل : المراد ترك المقابلة ، فلذلك قالوا : إنه منسوخ ، وهذا ضعيف ؛ لأن الأمر بترك المقابلة في الحال لا يفيد الأمر بتركها دائما ، وإذا كان الأمر كذلك لم يجب التزام النسخ ، وقيل : المراد ترك مقابلتهم فيما يأتونه من سفه ، وأن يعدل صلوات الله عليه إلى الطريق الذي يكون أقرب إلى القبول ، وأبعد عن التنفير والتغليظ .
قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=107ولو شاء الله ما أشركوا وما جعلناك عليهم حفيظا وما أنت عليهم بوكيل ) .
اعلم أن هذا الكلام أيضا متعلق بقولهم للرسول عليه السلام إنما جمعت هذا القرآن من مدارسة الناس ومذاكرتهم ، فكأنه تعالى يقول له : لا تلتفت إلى سفاهات هؤلاء الكفار ، ولا يثقلن عليك كفرهم ، فإني لو أردت إزالة الكفر عنهم لقدرت ، ولكني تركتهم مع كفرهم ، فلا ينبغي أن تشغل قلبك بكلماتهم .
واعلم أن أصحابنا تمسكوا بقوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=107ولو شاء الله ما أشركوا ) والمعنى : ولو شاء الله أن لا يشركوا ما أشركوا ، وحيث لم يحصل الجزاء علمنا أنه لم يحصل الشرط ، فعلمنا أن
nindex.php?page=treesubj&link=28783مشيئة الله تعالى بعدم إشراكهم غير حاصلة ، قالت
المعتزلة : ثبت بالدليل أنه تعالى أراد من الكل الإيمان ، وما شاء من أحد الكفر والشرك ، وهذه الآية تقتضي أنه تعالى ما شاء من الكل الإيمان ، فوجب التوفيق بين الدليلين ، فيحمل مشيئة الله تعالى لإيمانهم على مشيئة الإيمان الاختياري الموجب للثواب والثناء ، ويحمل عدم مشيئته لإيمانهم على الإيمان الحاصل بالقهر والجبر والإلجاء ، يعني أنه تعالى ما شاء منهم أن يحملهم على الإيمان على سبيل القهر والإلجاء ؛ لأن ذلك يبطل التكليف ويخرج الإنسان عن استحقاق الثواب .
هذا ما عول القوم عليه في هذا الباب ، وهو في غاية الضعف ويدل عليه وجوه :
الأول : لا شك أنه تعالى هو الذي أقدر الكافر على الكفر ، فقدرة الكفر إن لم تصلح للإيمان فخالق تلك القدرة لا شك أنه كان مريدا للكفر ، وإن كانت صالحة للإيمان لم يترجح جانب الكفر على جانب الإيمان إلا عند حصول داع يدعوه إلى الإيمان ، وإلا لزم رجحان أحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح وهو محال ، ومجموع القدرة مع الداعي إلى الكفر يوجب الكفر ، وإذا كان خالق القدرة والداعي هو الله تعالى ، وثبت أن مجموعهما يوجب الكفر ، ثبت أنه تعالى قد أراد الكفر من الكافر .
الثاني : في تقرير هذا الكلام أن نقول : إنه تعالى كان عالما بعدم الإيمان من الكافر ، ووجود الإيمان مع العلم بعدم الإيمان متضادان ومع وجود أحد الضدين كان حصول الضد الثاني محالا ، والمحال مع العلم بكونه محالا غير مراد ، فامتنع أن يقال : إنه تعالى يريد الإيمان من الكافر .
الثالث : هب أن الإيمان الاختياري أفضل وأنفع من الإيمان الحاصل بالجبر والقهر إلا أنه تعالى لما علم أن ذلك الأنفع لا يحصل البتة ، فقد كان يجب في حكمته ورحمته أن يخلق فيه الإيمان على سبيل الإلجاء ؛ لأن هذا الإيمان وإن كان لا يوجب الثواب العظيم ، فأقل ما فيه أن يخلصه من العقاب العظيم ، فترك إيجاد هذا الإيمان فيه على سبيل الإلجاء يوجب وقوعه في أشد العذاب ، وذلك لا يليق بالرحمة والإحسان ؛ ومثاله أن من كان له ولد عزيز ، وكان هذا الأب في غاية الشفقة وكان هذا الولد واقفا على طرف البحر فيقول الوالد له : غص في قعر هذا البحر
[ ص: 114 ] لتستخرج اللآلئ العظيمة الرفيعة العالية منه ، وعلم الوالد قطعا أنه إذا غاص في البحر هلك وغرق ، فهذا الأب إن كان ناظرا في حقه مشفقا عليه وجب عليه أن يمنعه من الغوص في قعر البحر ، ويقول له : اترك طلب تلك اللآلئ فإنك لا تجدها وتهلك ، ولكن الأولى لك أن تكتفي بالرزق القليل مع السلامة ، فأما أن يأمره بالغوص في قعر البحر مع اليقين التام بأنه لا يستفيد منه إلا الهلاك فهذا يدل على عدم الرحمة وعلى السعي في الهلاك فكذا هاهنا ، والله أعلم .
واعلم أنه تعالى لما بين أنه لا قدرة لأحد على إزالة الكفر عنهم ختم الكلام بما يكمل معه تبصير الرسول عليه السلام ، وذلك أنه تعالى بين له قدر ما جعل إليه فذكر أنه تعالى ما جعله عليهم حفيظا ولا وكيلا على سبيل المنع لهم ، وإنما فوض إليه البلاغ بالأمر والنهي في العمل والعلم ، وفي البيان بذكر الدلائل والتنبيه عليها ، فإن انقادوا للقبول فنفعه عائد إليه ، وإلا فضرره عائد عليهم ؛ وعلى التقديرين فلا يخرج - صلى الله عليه وسلم - من الرسالة والنبوة والتبليغ .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=106اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=107وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ ) .
قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=106اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ) .
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنِ الْكُفَّارِ أَنَّهُمْ يَنْسُبُونَهُ فِي إِظْهَارِ هَذَا الْقُرْآنِ إِلَى الِافْتِرَاءِ ، أَوْ إِلَى أَنَّهُ يُدَارِسُ أَقْوَامًا وَيَسْتَفِيدُ هَذِهِ الْعُلُومَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْظِمُهَا قُرْآنًا ، وَيَدَّعِي أَنَّهُ نَزَلَ عَلَيْهِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ، أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=106اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ )
[ ص: 113 ] لِئَلَّا يَصِيرَ ذَلِكَ الْقَوْلُ سَبَبًا لِفُتُورِهِ فِي تَبْلِيغِ الدَّعْوَةِ وَالرِّسَالَةِ ، وَالْمَقْصُودُ
nindex.php?page=treesubj&link=30614_32024تَقْوِيَةُ قَلْبِهِ وَإِزَالَةُ الْحُزْنِ الَّذِي حَصَلَ بِسَبَبِ سَمَاعِ تِلْكَ الشُّبْهَةِ ، وَنَبَّهَ بِقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=106لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ) عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا كَانَ وَاحِدًا فِي الْإِلَهِيَّةِ فَإِنَّهُ يَجِبُ طَاعَتُهُ ، وَلَا يَجُوزُ الْإِعْرَاضُ عَنْ تَكَالِيفِهِ بِسَبَبِ جَهْلِ الْجَاهِلِينَ وَزَيْغِ الزَّائِغِينَ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=106وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ) فَقِيلَ : الْمُرَادُ تَرْكُ الْمُقَابَلَةِ ، فَلِذَلِكَ قَالُوا : إِنَّهُ مَنْسُوخٌ ، وَهَذَا ضَعِيفٌ ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِتَرْكِ الْمُقَابَلَةِ فِي الْحَالِ لَا يُفِيدُ الْأَمْرَ بِتَرْكِهَا دَائِمًا ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَمْ يَجِبِ الْتِزَامُ النَّسْخِ ، وَقِيلَ : الْمُرَادُ تَرْكُ مُقَابَلَتِهِمْ فِيمَا يَأْتُونَهُ مِنْ سَفَهٍ ، وَأَنْ يَعْدِلَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِلَى الطَّرِيقِ الَّذِي يَكُونُ أَقْرَبَ إِلَى الْقَبُولِ ، وَأَبْعَدَ عَنِ التَّنْفِيرِ وَالتَّغْلِيظِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=107وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ ) .
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ أَيْضًا مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِمْ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا جَمَعْتَ هَذَا الْقُرْآنَ مِنْ مُدَارَسَةِ النَّاسِ وَمُذَاكَرَتِهِمْ ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ لَهُ : لَا تَلْتَفِتْ إِلَى سَفَاهَاتِ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ ، وَلَا يَثْقُلَنَّ عَلَيْكَ كُفْرُهُمْ ، فَإِنِّي لَوْ أَرَدْتُ إِزَالَةَ الْكُفْرِ عَنْهُمْ لَقَدَرْتُ ، وَلَكِنِّي تَرَكْتُهُمْ مَعَ كُفْرِهِمْ ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ تَشْغَلَ قَلْبَكَ بِكَلِمَاتِهِمْ .
وَاعْلَمْ أَنَّ أَصْحَابَنَا تَمَسَّكُوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=107وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا ) وَالْمَعْنَى : وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ لَا يُشْرِكُوا مَا أَشْرَكُوا ، وَحَيْثُ لَمْ يَحْصُلِ الْجَزَاءُ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَحْصُلِ الشَّرْطُ ، فَعَلِمْنَا أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=28783مَشِيئَةَ اللَّهِ تَعَالَى بِعَدَمِ إِشْرَاكِهِمْ غَيْرُ حَاصِلَةٍ ، قَالَتِ
الْمُعْتَزِلَةُ : ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ مِنَ الْكُلِّ الْإِيمَانَ ، وَمَا شَاءَ مِنْ أَحَدٍ الْكُفْرَ وَالشِّرْكَ ، وَهَذِهِ الْآيَةُ تَقْتَضِي أَنَّهُ تَعَالَى مَا شَاءَ مِنَ الْكُلِّ الْإِيمَانَ ، فَوَجَبَ التَّوْفِيقُ بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ ، فَيُحْمَلُ مَشِيئَةُ اللَّهِ تَعَالَى لِإِيمَانِهِمْ عَلَى مَشِيئَةِ الْإِيمَانِ الِاخْتِيَارِيِّ الْمُوجِبِ لِلثَّوَابِ وَالثَّنَاءِ ، وَيُحْمَلُ عَدَمُ مَشِيئَتِهِ لِإِيمَانِهِمْ عَلَى الْإِيمَانِ الْحَاصِلِ بِالْقَهْرِ وَالْجَبْرِ وَالْإِلْجَاءِ ، يَعْنِي أَنَّهُ تَعَالَى مَا شَاءَ مِنْهُمْ أَنْ يَحْمِلَهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ عَلَى سَبِيلِ الْقَهْرِ وَالْإِلْجَاءِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُبْطِلُ التَّكْلِيفَ وَيُخْرِجُ الْإِنْسَانَ عَنِ اسْتِحْقَاقِ الثَّوَابِ .
هَذَا مَا عَوَّلَ الْقَوْمُ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْبَابِ ، وَهُوَ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ :
الْأَوَّلُ : لَا شَكَّ أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي أَقْدَرَ الْكَافِرَ عَلَى الْكُفْرِ ، فَقُدْرَةُ الْكُفْرِ إِنْ لَمْ تَصْلُحْ لِلْإِيمَانِ فَخَالِقُ تِلْكَ الْقُدْرَةِ لَا شَكَّ أَنَّهُ كَانَ مُرِيدًا لِلْكُفْرِ ، وَإِنْ كَانَتْ صَالِحَةً لِلْإِيمَانِ لَمْ يَتَرَجَّحْ جَانِبُ الْكُفْرِ عَلَى جَانِبِ الْإِيمَانِ إِلَّا عِنْدَ حُصُولِ دَاعٍ يَدْعُوهُ إِلَى الْإِيمَانِ ، وَإِلَّا لَزِمَ رُجْحَانُ أَحَدِ طَرَفَيِ الْمُمْكِنِ عَلَى الْآخَرِ لَا لِمُرَجِّحٍ وَهُوَ مُحَالٌ ، وَمَجْمُوعُ الْقُدْرَةِ مَعَ الدَّاعِي إِلَى الْكُفْرِ يُوجِبُ الْكُفْرَ ، وَإِذَا كَانَ خَالِقُ الْقُدْرَةِ وَالدَّاعِي هُوَ اللَّهَ تَعَالَى ، وَثَبَتَ أَنَّ مَجْمُوعَهُمَا يُوجِبُ الْكُفْرَ ، ثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى قَدْ أَرَادَ الْكُفْرَ مِنَ الْكَافِرِ .
الثَّانِي : فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْكَلَامِ أَنْ نَقُولَ : إِنَّهُ تَعَالَى كَانَ عَالِمًا بِعَدَمِ الْإِيمَانِ مِنَ الْكَافِرِ ، وَوُجُودُ الْإِيمَانِ مَعَ الْعِلْمِ بِعَدَمِ الْإِيمَانِ مُتَضَادَّانِ وَمَعَ وُجُودِ أَحَدِ الضِّدَّيْنِ كَانَ حُصُولُ الضِّدِّ الثَّانِي مُحَالًا ، وَالْمَحَالُّ مَعَ الْعِلْمِ بِكَوْنِهِ مُحَالًا غَيْرُ مُرَادٍ ، فَامْتَنَعَ أَنْ يُقَالَ : إِنَّهُ تَعَالَى يُرِيدُ الْإِيمَانَ مِنَ الْكَافِرِ .
الثَّالِثُ : هَبْ أَنَّ الْإِيمَانَ الِاخْتِيَارِيَّ أَفْضَلُ وَأَنْفَعُ مِنَ الْإِيمَانِ الْحَاصِلِ بِالْجَبْرِ وَالْقَهْرِ إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ الْأَنْفَعَ لَا يَحْصُلُ الْبَتَّةَ ، فَقَدْ كَانَ يَجِبُ فِي حِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ أَنْ يَخْلُقَ فِيهِ الْإِيمَانَ عَلَى سَبِيلِ الْإِلْجَاءِ ؛ لِأَنَّ هَذَا الْإِيمَانَ وَإِنْ كَانَ لَا يُوجِبُ الثَّوَابَ الْعَظِيمَ ، فَأَقَلُّ مَا فِيهِ أَنْ يُخَلِّصَهُ مِنَ الْعِقَابِ الْعَظِيمِ ، فَتَرْكُ إِيجَادِ هَذَا الْإِيمَانِ فِيهِ عَلَى سَبِيلِ الْإِلْجَاءِ يُوجِبُ وُقُوعَهُ فِي أَشَدِّ الْعَذَابِ ، وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِالرَّحْمَةِ وَالْإِحْسَانِ ؛ وَمِثَالُهُ أَنَّ مَنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ عَزِيزٌ ، وَكَانَ هَذَا الْأَبُ فِي غَايَةِ الشَّفَقَةِ وَكَانَ هَذَا الْوَلَدُ وَاقِفًا عَلَى طَرَفِ الْبَحْرِ فَيَقُولُ الْوَالِدُ لَهُ : غُصْ فِي قَعْرِ هَذَا الْبَحْرِ
[ ص: 114 ] لِتَسْتَخْرِجَ اللَّآلِئَ الْعَظِيمَةَ الرَّفِيعَةَ الْعَالِيَةَ مِنْهُ ، وَعَلِمَ الْوَالِدُ قَطْعًا أَنَّهُ إِذَا غَاصَ فِي الْبَحْرِ هَلَكَ وَغَرِقَ ، فَهَذَا الْأَبُ إِنْ كَانَ نَاظِرًا فِي حَقِّهِ مُشْفِقًا عَلَيْهِ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنَ الْغَوْصِ فِي قَعْرِ الْبَحْرِ ، وَيَقُولُ لَهُ : اتْرُكْ طَلَبَ تِلْكَ اللَّآلِئِ فَإِنَّكَ لَا تَجِدُهَا وَتَهْلِكُ ، وَلَكِنَّ الْأَوْلَى لَكَ أَنْ تَكْتَفِيَ بِالرِّزْقِ الْقَلِيلِ مَعَ السَّلَامَةِ ، فَأَمَّا أَنْ يَأْمُرَهُ بِالْغَوْصِ فِي قَعْرِ الْبَحْرِ مَعَ الْيَقِينِ التَّامِّ بِأَنَّهُ لَا يَسْتَفِيدُ مِنْهُ إِلَّا الْهَلَاكَ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الرَّحْمَةِ وَعَلَى السَّعْيِ فِي الْهَلَاكِ فَكَذَا هَاهُنَا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُ لَا قُدْرَةَ لِأَحَدٍ عَلَى إِزَالَةِ الْكُفْرِ عَنْهُمْ خَتَمَ الْكَلَامَ بِمَا يَكْمُلُ مَعَهُ تَبْصِيرُ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ لَهُ قَدْرَ مَا جُعِلَ إِلَيْهِ فَذَكَرَ أَنَّهُ تَعَالَى مَا جَعَلَهُ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَلَا وَكِيلًا عَلَى سَبِيلِ الْمَنْعِ لَهُمْ ، وَإِنَّمَا فَوَّضَ إِلَيْهِ الْبَلَاغَ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فِي الْعَمَلِ وَالْعِلْمِ ، وَفِي الْبَيَانِ بِذِكْرِ الدَّلَائِلِ وَالتَّنْبِيهِ عَلَيْهَا ، فَإِنِ انْقَادُوا لِلْقَبُولِ فَنَفْعُهُ عَائِدٌ إِلَيْهِ ، وَإِلَّا فَضَرَرُهُ عَائِدٌ عَلَيْهِمْ ؛ وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَلَا يَخْرُجُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الرِّسَالَةِ وَالنُّبُوَّةِ وَالتَّبْلِيغِ .