المسألة الثالثة : اختلفوا في أن
nindex.php?page=treesubj&link=29737_31771_28734_31750إبليس هل كان من الملائكة ؟ قال بعض المتكلمين ولا سيما
المعتزلة إنه لم يكن منهم ، وقال كثير من الفقهاء : إنه كان منهم واحتج الأولون بوجوه :
أحدها : أنه كان من الجن فوجب أن لا يكون من الملائكة وإنما قلنا إنه كان من الجن لقوله تعالى في سورة الكهف (
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=50إلا إبليس كان من الجن ) [الكهف : 50] واعلم أن من الناس من ظن أنه لما ثبت أنه كان من
[ ص: 196 ] الجن وجب أن لا يكون من الملائكة ؛ لأن الجن جنس مخالف للملك وهذا ضعيف لأن الجن مأخوذ من الاجتنان وهو الستر ؛ ولهذا سمي الجنين جنينا لاجتنانه ، ومنه الجنة لكونها ساترة ، والجنة لكونها مستترة بالأغصان ، ومنه الجنون لاستتار العقل فيه ، ولما ثبت هذا والملائكة مستورون عن العيون وجب إطلاق لفظ الجن عليهم بحسب اللغة ، فثبت أن هذا القدر لا يفيد المقصود فنقول : لما ثبت أن إبليس كان من الجن وجب أن لا يكون من الملائكة لقوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=40ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=41قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن ) [سبأ : 41] وهذه الآية صريحة في الفرق بين الجن والملك ، فإن قيل : لا نسلم أنه كان من الجن ، أما قوله تعالى (
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=50كان من الجن ) [الكهف : 50] فلم لا يجوز أن يكون المراد كان من الجنة على ما روي عن
ابن مسعود أنه قال : كان من الجن أي كان خازن الجنة ؟ سلمنا ذلك لكن لم لا يجوز أن يكون قوله : من الجن أي صار من الجن كما أن قوله (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=34وكان من الكافرين ) أي صار من الكافرين ، سلمنا أن ما ذكرت يدل على أنه من الجن ، فلم قلت إن كونه من الجن ينافي كونه من الملائكة ؟ وما ذكرتم من الآية معارض بآية أخرى وهي قوله تعالى (
nindex.php?page=tafseer&surano=37&ayano=158وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا ) [الصافات : 158] وذلك لأن
قريشا قالت : الملائكة بنات الله فهذه الآية تدل على أن الملك يسمى جنا ؟ والجواب : لا يجوز أن يكون المراد من قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=50كان من الجن ) [الكهف : 50] أنه كان خازن الجنة ؛ لأن قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=50إلا إبليس كان من الجن ) يشعر بتعليل تركه للسجود لكونه جنيا ولا يمكن تعليل ترك السجود بكونه خازنا للجنة ، فيبطل ذلك قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=50كان من الجن ) أي صار من الجن .
قلنا : هذا خلاف الظاهر فلا يصار إليه إلا عند الضرورة ، وأما قوله تعالى (
nindex.php?page=tafseer&surano=37&ayano=158وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا ) [الصافات : 158] قلنا يحتمل أن بعض الكفار أثبت ذلك النسب في الجن كما أثبته في الملائكة ، وأيضا فقد بينا أن الملك يسمى جنا بحسب أصل اللغة لكن لفظ الجن بحسب العرف اختص بغيرهم كما أن لفظ الدابة وإن كان بحسب اللغة الأصلية يتناول كل ما يدب ، لكنه بحسب العرف اختص ببعض ما يدب فتحمل هذه الآية على اللغة الأصلية ، والآية التي ذكرناها على العرف الحادث .
وثانيها : أن
nindex.php?page=treesubj&link=28734_28796_31765_31750إبليس له ذرية والملائكة لا ذرية لهم ، إنما قلنا : إن إبليس له ذرية لقوله تعالى في صفته (
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=50أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني ) [الكهف : 50] وهذا صريح في إثبات الذرية له ، وإنما قلنا : إن الملائكة لا ذرية لهم ؛ لأن الذرية إنما تحصل من الذكر والأنثى ، والملائكة لا أنثى فيهم لقوله تعالى (
nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=19وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ) [الزخرف : 19] أنكر على من حكم عليهم بالأنوثة فإذا انتفت الأنوثة انتفى التوالد لا محالة فانتفت الذرية .
وثالثها : أن
nindex.php?page=treesubj&link=29737الملائكة معصومون على ما تقدم بيانه ، وإبليس لم يكن كذلك فوجب أن لا يكون من الملائكة .
ورابعها : أن
nindex.php?page=treesubj&link=31750_31766إبليس مخلوق من النار والملائكة ليسوا كذلك ، إنما قلنا : إن إبليس مخلوق من النار لقوله تعالى حكاية عن إبليس (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=12خلقتني من نار ) [الأعراف : 12] وأيضا فلأنه كان من الجن لقوله تعالى (
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=50كان من الجن ) [الكهف : 50] والجن مخلوقون من النار لقوله تعالى (
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=27والجان خلقناه من قبل من نار السموم ) [الحجر : 27] وقال (
nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=14خلق الإنسان من صلصال كالفخار nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=15وخلق الجان من مارج من نار ) [الرحمن : 15] وأما أن الملائكة ليسوا مخلوقين من النار بل من النور ، فلما روى
nindex.php?page=showalam&ids=12300الزهري عن
عروة عن
nindex.php?page=showalam&ids=25عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال
nindex.php?page=hadith&LINKID=16011419خلقت [ ص: 197 ] الملائكة من نور وخلق الجان من مارج من نار ؛ ولأن من المشهور الذي يدفع أن الملائكة روحانيون ، وقيل إنما سموا بذلك ؛ لأنهم خلقوا من الريح أو الروح .
وخامسها : أن الملائكة رسل لقوله تعالى (
nindex.php?page=tafseer&surano=35&ayano=1جاعل الملائكة رسلا ) [فاطر : 1] ورسل الله معصومون ، لقوله تعالى (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=124الله أعلم حيث يجعل رسالته ) [الأنعام : 124] فلما لم يكن إبليس كذلك وجب أن لا يكون من الملائكة ، واحتج القائلون بكونه من الملائكة بأمرين .
الأول : أن الله تعالى استثناه من الملائكة والاستثناء يفيد إخراج ما لولاه لدخل أو لصح دخوله ، وذلك يوجب كونه من الملائكة ، لا يقال : الاستثناء المنقطع مشهور في كلام العرب ، قال تعالى (
nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=26وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=27إلا الذي فطرني ) [الزخرف : 27] وقال تعالى (
nindex.php?page=tafseer&surano=56&ayano=25لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما nindex.php?page=tafseer&surano=56&ayano=26إلا قيلا سلاما سلاما ) [الواقعة : 25] وقال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=29لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض ) [النساء : 29] وقال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=92وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ) [النساء : 92] وأيضا فلأنه كان جنيا واحدا بين الألوف من الملائكة ، فغلبوا عليه في قوله ( فسجدوا ) ثم استثني هو منهم استثناء واحد منهم ؛ لأنا نقول : كل واحد من هذين الوجهين على خلاف الأصل ، فذلك إنما يصار إليه عند الضرورة ، والدلائل التي ذكرتموها في نفي كونه من الملائكة ، ليس فيها إلا الاعتماد على العمومات ، فلو جعلناه من الملائكة لزم تخصيص ما عولتم عليه من العمومات ، ولو قلنا : إنه ليس من الملائكة ، لزمنا حمل الاستثناء على الاستثناء المنقطع ، ومعلوم أن تخصيص العمومات أكثر في كتاب الله تعالى من حمل الاستثناء على الاستثناء المنقطع فكان قولنا أولى .
أيضا فالاستثناء مشتق من الثني والصرف ، ومعنى الصرف إنما يتحقق حيث لولا الصرف لدخل والشيء لا يدخل في غير جنسه فيمتنع تحقق معنى الاستثناء فيه ، وأما قوله إنه جني واحد بين الملائكة ، فنقول : إنما يجوز إجراء حكم الكثير على القليل إذا كان القليل ساقط العبرة غير ملتفت إليه إذا كان معظم الحديث لا يكون إلا عن ذلك الواحد لم يجز إجراء حكم غيره عليه .
الحجة الثانية : قالوا لو لم يكن إبليس من الملائكة لما كان قوله (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=34وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم ) متناولا له ، ولو لم يكن متناولا له لاستحال أن يكون تركه للسجود إباء واستكبارا ومعصية ، ولما استحق الذم والعقاب ، وحيث حصلت هذه الأمور علمنا أن ذلك الخطاب يتناوله ، ولا يتناوله ذلك الخطاب إلا إذا كان من الملائكة ، لا يقال إنه وإن لم يكن من الملائكة إلا أنه نشأ معهم وطالت مخالطته بهم والتصق بهم ، فلا جرم يتناوله ذلك الخطاب ، وأيضا فلم لا يجوز أن يقال : إنه وإن لم يدخل في هذا الأمر ، ولكن الله تعالى أمره بالسجود بلفظ آخر ما حكاه في القرآن بدليل قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=12ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك ) [الأعراف : 12] لأنا نقول : أما الأول فجوابه أن المخالطة لا توجب ما ذكرتموه ، ولهذا قلنا في أصول الفقه إن خطاب الذكور لا يتناول الإناث ، وبالعكس مع شدة المخالطة بين الصنفين ، وأيضا فشدة المخالطة بين الملائكة وبين إبليس لما لم تمنع اقتصار اللعن على إبليس فكيف تمنع اقتصار ذلك التكليف على الملائكة ، وأما الثاني فجوابه أن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلية ، فلما ذكر قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=34أبى واستكبر ) عقيب قوله (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=34وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم ) أشعر هذا التعقيب بأن هذا الإباء إنما حصل بسبب مخالفة هذا الأمر لا بسبب مخالفة أمر آخر ، فهذا ما عندي في الجانبين والله أعلم بحقائق الأمور .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=29737_31771_28734_31750إِبْلِيسَ هَلْ كَانَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ ؟ قَالَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ وَلَا سِيَّمَا
الْمُعْتَزِلَةُ إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ ، وَقَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ : إِنَّهُ كَانَ مِنْهُمْ وَاحْتَجَّ الْأَوَّلُونَ بِوُجُوهٍ :
أَحَدُهَا : أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْجِنِّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْكَهْفِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=50إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ ) [الْكَهْفِ : 50] وَاعْلَمْ أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ ظَنَّ أَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ
[ ص: 196 ] الْجِنِّ وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ ؛ لِأَنَّ الْجِنَّ جِنْسٌ مُخَالِفٌ لِلْمَلَكِ وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ الْجِنَّ مَأْخُوذٌ مِنَ الِاجْتِنَانِ وَهُوَ السَّتْرُ ؛ وَلِهَذَا سُمِّيَ الْجَنِينُ جَنِينًا لِاجْتِنَانِهِ ، وَمِنْهُ الْجُنَّةُ لِكَوْنِهَا سَاتِرَةً ، وَالْجَنَّةُ لِكَوْنِهَا مُسْتَتِرَةً بِالْأَغْصَانِ ، وَمِنْهُ الْجُنُونُ لِاسْتِتَارِ الْعَقْلِ فِيهِ ، وَلَمَّا ثَبَتَ هَذَا وَالْمَلَائِكَةُ مَسْتُورُونَ عَنِ الْعُيُونِ وَجَبَ إِطْلَاقُ لَفْظِ الْجِنِّ عَلَيْهِمْ بِحَسْبِ اللُّغَةِ ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ لَا يُفِيدُ الْمَقْصُودَ فَنَقُولُ : لَمَّا ثَبَتَ أَنَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=40وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=41قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ ) [سَبَأٍ : 41] وَهَذِهِ الْآيَةُ صَرِيحَةٌ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْجِنِّ وَالْمَلَكِ ، فَإِنْ قِيلَ : لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْجِنِّ ، أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى (
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=50كَانَ مِنَ الْجِنِّ ) [الْكَهْفِ : 50] فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ كَانَ مِنَ الْجَنَّةِ عَلَى مَا رُوِيَ عَنِ
ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ : كَانَ مِنَ الْجِنِّ أَيْ كَانَ خَازِنَ الْجَنَّةِ ؟ سَلَّمْنَا ذَلِكَ لَكِنْ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ : مِنَ الْجِنِّ أَيْ صَارَ مِنَ الْجِنِّ كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=34وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ) أَيْ صَارَ مِنَ الْكَافِرِينَ ، سَلَّمْنَا أَنَّ مَا ذَكَرْتَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْجِنِّ ، فَلِمَ قُلْتَ إِنَّ كَوْنَهُ مِنَ الْجِنِّ يُنَافِي كَوْنَهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ ؟ وَمَا ذَكَرْتُمْ مِنَ الْآيَةِ مُعَارَضٌ بِآيَةٍ أُخْرَى وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى (
nindex.php?page=tafseer&surano=37&ayano=158وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا ) [الصَّافَّاتِ : 158] وَذَلِكَ لِأَنَّ
قُرَيْشًا قَالَتْ : الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ فَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَلَكَ يُسَمَّى جِنًّا ؟ وَالْجَوَابُ : لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=50كَانَ مِنَ الْجِنِّ ) [الْكَهْفِ : 50] أَنَّهُ كَانَ خَازِنَ الْجَنَّةِ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=50إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ ) يُشْعِرُ بِتَعْلِيلِ تَرْكِهِ لِلسُّجُودِ لِكَوْنِهِ جِنِّيًّا وَلَا يُمْكِنُ تَعْلِيلُ تَرْكِ السُّجُودِ بِكَوْنِهِ خَازِنًا لِلْجَنَّةِ ، فَيُبْطِلُ ذَلِكَ قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=50كَانَ مِنَ الْجِنِّ ) أَيْ صَارَ مِنَ الْجِنِّ .
قُلْنَا : هَذَا خِلَافُ الظَّاهِرِ فَلَا يُصَارُ إِلَيْهِ إِلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى (
nindex.php?page=tafseer&surano=37&ayano=158وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا ) [الصَّافَّاتِ : 158] قُلْنَا يُحْتَمَلُ أَنَّ بَعْضَ الْكُفَّارِ أَثْبَتَ ذَلِكَ النَّسَبَ فِي الْجِنِّ كَمَا أَثْبَتَهُ فِي الْمَلَائِكَةِ ، وَأَيْضًا فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمَلَكَ يُسَمَّى جِنًّا بِحَسَبِ أَصْلِ اللُّغَةِ لَكِنَّ لَفْظَ الْجِنِّ بِحَسَبِ الْعُرْفِ اخْتَصَّ بِغَيْرِهِمْ كَمَا أَنَّ لَفْظَ الدَّابَّةِ وَإِنْ كَانَ بِحَسَبِ اللُّغَةِ الْأَصْلِيَّةِ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَا يَدِبُّ ، لَكِنَّهُ بِحَسَبِ الْعُرْفِ اخْتَصَّ بِبَعْضِ مَا يَدِبُّ فَتُحْمَلُ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى اللُّغَةِ الْأَصْلِيَّةِ ، وَالْآيَةُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا عَلَى الْعُرْفِ الْحَادِثِ .
وَثَانِيهَا : أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=28734_28796_31765_31750إِبْلِيسَ لَهُ ذُرِّيَّةٌ وَالْمَلَائِكَةُ لَا ذُرِّيَّةَ لَهُمْ ، إِنَّمَا قُلْنَا : إِنَّ إِبْلِيسَ لَهُ ذَرِّيَّةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي صِفَتِهِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=50أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي ) [الْكَهْفِ : 50] وَهَذَا صَرِيحٌ فِي إِثْبَاتِ الذُّرِّيَّةِ لَهُ ، وَإِنَّمَا قُلْنَا : إِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا ذُرِّيَّةَ لَهُمْ ؛ لِأَنَّ الذُّرِّيَّةَ إِنَّمَا تَحْصُلُ مِنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى ، وَالْمَلَائِكَةُ لَا أُنْثَى فِيهِمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى (
nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=19وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ ) [الزُّخْرُفِ : 19] أَنْكَرَ عَلَى مَنْ حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِالْأُنُوثَةِ فَإِذَا انْتَفَتِ الْأُنُوثَةُ انْتَفَى التَّوَالُدُ لَا مَحَالَةَ فَانْتَفَتِ الذُّرِّيَّةُ .
وَثَالِثُهَا : أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=29737الْمَلَائِكَةَ مَعْصُومُونَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ ، وَإِبْلِيسُ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ .
وَرَابِعُهَا : أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=31750_31766إِبْلِيسَ مَخْلُوقٌ مِنَ النَّارِ وَالْمَلَائِكَةُ لَيْسُوا كَذَلِكَ ، إِنَّمَا قُلْنَا : إِنَّ إِبْلِيسَ مَخْلُوقٌ مِنَ النَّارِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ إِبْلِيسَ (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=12خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ ) [الْأَعْرَافِ : 12] وَأَيْضًا فَلِأَنَّهُ كَانَ مِنَ الْجِنِّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى (
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=50كَانَ مِنَ الْجِنِّ ) [الْكَهْفِ : 50] وَالْجِنُّ مَخْلُوقُونَ مِنَ النَّارِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى (
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=27وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ ) [الْحِجْرِ : 27] وَقَالَ (
nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=14خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=15وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ ) [الرَّحْمَنِ : 15] وَأَمَّا أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَيْسُوا مَخْلُوقِينَ مِنَ النَّارِ بَلْ مِنَ النُّورِ ، فَلِمَا رَوَى
nindex.php?page=showalam&ids=12300الزُّهْرِيُّ عَنْ
عُرْوَةَ عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=25عَائِشَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ
nindex.php?page=hadith&LINKID=16011419خُلِقَتِ [ ص: 197 ] الْمَلَائِكَةُ مِنْ نُورٍ وَخُلِقَ الْجَانُّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ ؛ وَلِأَنَّ مِنَ الْمَشْهُورِ الَّذِي يَدْفَعُ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ رُوحَانِيُّونَ ، وَقِيلَ إِنَّمَا سُمُّوا بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُمْ خُلِقُوا مِنَ الرِّيحِ أَوِ الرَّوْحِ .
وَخَامِسُهَا : أَنَّ الْمَلَائِكَةَ رُسُلٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى (
nindex.php?page=tafseer&surano=35&ayano=1جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا ) [فَاطِرٍ : 1] وَرُسُلُ اللَّهِ مَعْصُومُونَ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=124اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ) [الْأَنْعَامِ : 124] فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ إِبْلِيسُ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ ، وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِكَوْنِهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ بِأَمْرَيْنِ .
الْأَوَّلُ : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اسْتَثْنَاهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالِاسْتِثْنَاءُ يُفِيدُ إِخْرَاجَ مَا لَوْلَاهُ لَدَخَلَ أَوْ لَصَحَّ دُخُولُهُ ، وَذَلِكَ يُوجِبُ كَوْنَهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ ، لَا يُقَالُ : الِاسْتِثْنَاءُ الْمُنْقَطِعُ مَشْهُورٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ ، قَالَ تَعَالَى (
nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=26وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=27إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي ) [الزُّخْرُفِ : 27] وَقَالَ تَعَالَى (
nindex.php?page=tafseer&surano=56&ayano=25لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا nindex.php?page=tafseer&surano=56&ayano=26إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا ) [الْوَاقِعَةِ : 25] وَقَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=29لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ ) [النِّسَاءِ : 29] وَقَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=92وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً ) [النِّسَاءِ : 92] وَأَيْضًا فَلِأَنَّهُ كَانَ جِنِّيًّا وَاحِدًا بَيْنَ الْأُلُوفِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ ، فَغَلَبُوا عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ ( فَسَجَدُوا ) ثُمَّ اسْتُثْنِيَ هُوَ مِنْهُمُ اسْتِثْنَاءَ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ؛ لِأَنَّا نَقُولُ : كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ ، فَذَلِكَ إِنَّمَا يُصَارُ إِلَيْهِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ ، وَالدَّلَائِلُ الَّتِي ذَكَرْتُمُوهَا فِي نَفْيِ كَوْنِهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ ، لَيْسَ فِيهَا إِلَّا الِاعْتِمَادُ عَلَى الْعُمُومَاتِ ، فَلَوْ جَعَلْنَاهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لَزِمَ تَخْصِيصُ مَا عَوَّلْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْعُمُومَاتِ ، وَلَوْ قُلْنَا : إِنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ ، لَزِمَنَا حَمْلُ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ تَخْصِيصَ الْعُمُومَاتِ أَكْثَرُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ حَمْلِ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ فَكَانَ قَوْلُنَا أَوْلَى .
أَيْضًا فَالِاسْتِثْنَاءُ مُشْتَقٌّ مِنَ الثَّنْيِ وَالصَّرْفِ ، وَمَعْنَى الصَّرْفِ إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ حَيْثُ لَوْلَا الصَّرْفُ لَدَخَلَ وَالشَّيْءُ لَا يَدْخُلُ فِي غَيْرِ جِنْسِهِ فَيَمْتَنِعُ تَحَقُّقُ مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ فِيهِ ، وَأَمَّا قَوْلُهُ إِنَّهُ جِنِّيٌّ وَاحِدٌ بَيْنَ الْمَلَائِكَةِ ، فَنَقُولُ : إِنَّمَا يَجُوزُ إِجْرَاءُ حُكْمِ الْكَثِيرِ عَلَى الْقَلِيلِ إِذَا كَانَ الْقَلِيلُ سَاقِطَ الْعِبْرَةِ غَيْرَ مُلْتَفَتٍ إِلَيْهِ إِذَا كَانَ مُعْظَمُ الْحَدِيثِ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ ذَلِكَ الْوَاحِدِ لَمْ يَجُزْ إِجْرَاءُ حُكْمِ غَيْرِهِ عَلَيْهِ .
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ : قَالُوا لَوْ لَمْ يَكُنْ إِبْلِيسُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لَمَا كَانَ قَوْلُهُ (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=34وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ ) مُتَنَاوِلًا لَهُ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُتَنَاوِلًا لَهُ لَاسْتَحَالَ أَنْ يَكُونَ تَرْكُهُ لِلسُّجُودِ إِبَاءً وَاسْتِكْبَارًا وَمَعْصِيَةً ، وَلَمَا اسْتَحَقَّ الذَّمَّ وَالْعِقَابَ ، وَحَيْثُ حَصَلَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ عَلِمْنَا أَنَّ ذَلِكَ الْخِطَابَ يَتَنَاوَلُهُ ، وَلَا يَتَنَاوَلُهُ ذَلِكَ الْخِطَابُ إِلَّا إِذَا كَانَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ ، لَا يُقَالُ إِنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِلَّا أَنَّهُ نَشَأَ مَعَهُمْ وَطَالَتْ مُخَالَطَتُهُ بِهِمْ وَالْتَصَقَ بِهِمْ ، فَلَا جَرَمَ يَتَنَاوَلُهُ ذَلِكَ الْخِطَابُ ، وَأَيْضًا فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : إِنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ فِي هَذَا الْأَمْرِ ، وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَهُ بِالسُّجُودِ بِلَفْظٍ آخَرَ مَا حَكَاهُ فِي الْقُرْآنِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=12مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ) [الْأَعْرَافِ : 12] لِأَنَّا نَقُولُ : أَمَّا الْأَوَّلُ فَجَوَابُهُ أَنَّ الْمُخَالَطَةَ لَا تُوجِبُ مَا ذَكَرْتُمُوهُ ، وَلِهَذَا قُلْنَا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ إِنَّ خِطَابَ الذُّكُورِ لَا يَتَنَاوَلُ الْإِنَاثَ ، وَبِالْعَكْسِ مَعَ شَدَّةِ الْمُخَالَطَةِ بَيْنَ الصِّنْفَيْنِ ، وَأَيْضًا فَشِدَّةُ الْمُخَالَطَةِ بَيْنَ الْمَلَائِكَةِ وَبَيْنَ إِبْلِيسَ لَمَّا لَمْ تَمْنَعِ اقْتِصَارَ اللَّعْنِ عَلَى إِبْلِيسَ فَكَيْفَ تَمْنَعُ اقْتِصَارَ ذَلِكَ التَّكْلِيفِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ ، وَأَمَّا الثَّانِي فَجَوَابُهُ أَنَّ تَرْتِيبَ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ مُشْعِرٌ بِالْعِلِّيَّةِ ، فَلَمَّا ذَكَرَ قَوْلَهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=34أَبَى وَاسْتَكْبَرَ ) عَقِيبَ قَوْلِهِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=34وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ ) أَشْعَرَ هَذَا التَّعْقِيبُ بِأَنَّ هَذَا الْإِبَاءَ إِنَّمَا حَصَلَ بِسَبَبِ مُخَالَفَةِ هَذَا الْأَمْرِ لَا بِسَبَبِ مُخَالَفَةِ أَمْرٍ آخَرَ ، فَهَذَا مَا عِنْدِي فِي الْجَانِبَيْنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقَائِقِ الْأُمُورِ .