أما قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=212والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة ) ففيه سؤالات :
السؤال الأول : لم قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=212من الذين آمنوا ) ثم قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=212والذين اتقوا ) ؟ .
الجواب : ليظهر به أن
nindex.php?page=treesubj&link=19863_19889_29679_29680السعادة الكبرى لا تحصل إلا للمؤمن التقي ، وليكون باعثا للمؤمنين على التقوى .
السؤال الثاني : ما المراد بهذه الفوقية ؟
الجواب : فيه وجوه :
أحدها : أن يكون المراد بالفوقية الفوقية بالمكان ; لأن المؤمنين يكونون في عليين من السماء ، والكافرين يكونون في سجين من الأرض .
وثانيها : يحتمل أن يكون المراد بالفوقية في الكرامة والدرجة .
فإن قيل : إنما يقال : فلان فوق فلان في الكرامة ، إذا كان كل واحد منهما في الكرامة ثم يكون أحدهما أزيد حالا من الآخر في تلك الكرامة ، والكافر ليس له شيء من الكرامة فكيف يقال : المؤمن فوقه في الكرامة ؟
قلنا : المراد أنهم كانوا فوقهم في سعادات الدنيا ثم في الآخرة ينقلب الأمر ، فالله تعالى يعطي المؤمن من سعادات الآخرة ما يكون فوق السعادات الدنيوية التي كانت حاصلة للكافرين .
وثالثها : أن يكون المراد : أنهم فوقهم في الحجة يوم القيامة ; وذلك لأن شبهات الكفار ربما كانت تقع في قلوب المؤمنين ، ثم إنهم كانوا يردونها عن قلوبهم بمدد توفيق الله تعالى ، وأما يوم القيامة فلا يبقى شيء من ذلك ، بل تزول الشبهات ، ولا تؤثر وساوس الشيطان ، كما قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=83&ayano=29إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون ) إلى قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=83&ayano=34فاليوم الذين آمنوا ) [المطففين : 29] الآية .
ورابعها : أن سخرية المؤمنين بالكفار يوم القيامة فوق سخرية الكافرين بالمؤمنين في الدنيا ; لأن سخرية الكافر بالمؤمن باطلة ، وهي مع بطلانها منقضية ، وسخرية المؤمن بالكافر في الآخرة حقة ، ومع حقيتها هي دائمة باقية .
السؤال الثالث : هل تدل الآية على القطع بوعيد الفساد ؟ فإن لقائل أن يقول : إنه تعالى خص الذين اتقوا بهذه الفوقية ، فالذين لا يكونون موصوفين بالتقوى وجب أن لا تحصل لهم هذه الفوقية ، وإن لم تحصل هذه الفوقية كانوا من أهل النار .
الجواب : هذا تمسك بالمفهوم ، فلا يكون أقوى في الدلالة من العمومات التي بينا أنها مخصوصة بدلائل العفو .
[ ص: 9 ]
أما قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=212والله يرزق من يشاء بغير حساب ) فيحتمل أن يكون المراد منه
nindex.php?page=treesubj&link=19863ما يعطي الله المتقين في الآخرة من الثواب ، ويحتمل أن يكون المراد ما يعطي في الدنيا أصناف عبيده من المؤمنين والكافرين ، فإذا حملناه على رزق الآخرة احتمل وجوها :
أحدها : أنه يرزق من يشاء في الآخرة ، وهم المؤمنون بغير حساب ، أي رزقا واسعا رغدا لا فناء له ، ولا انقطاع ، وهو كقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=40فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب ) [غافر : 40] فإن كل ما دخل تحت الحساب والحصر والتقدير فهو متناه ، فما لا يكون متناهيا كان لا محالة خارجا عن الحساب .
وثانيها : أن
nindex.php?page=treesubj&link=30387المنافع الواصلة إليهم في الجنة بعضها ثواب وبعضها تفضل كما قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=173فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله ) [النساء : 173] فالفضل منه بلا حساب .
وثالثها : أنه لا يخاف نفادها عنده ، فيحتاج إلى حساب ما يخرج منه ; لأن المعطي إنما يحاسب ليعلم لمقدار ما يعطي وما يبقى ، فلا يتجاوز في عطاياه إلى ما يجحف به ، والله لا يحتاج إلى الحساب ; لأنه عالم غني لا نهاية لمقدوراته .
ورابعها : أنه أراد بهذا رزق أهل الجنة ; وذلك لأن الحساب إنما يحتاج إليه إذا كان بحيث إذا أعطى شيئا انتقص قدر الواجب عما كان ، والثواب ليس كذلك فإنه بعد انقضاء الأدوار والأعصار يكون الثواب المستحق بحكم الوعد والفضل باقيا ، فعلى هذا لا يتطرق الحساب ألبتة إلى الثواب .
وخامسها : أراد أن الذي يعطى لا نسبة له إلى ما في الخزانة ; لأن الذي يعطى في كل وقت يكون متناهيا لا محالة ، والذي في خزانة قدرة الله غير متناه ، والمتناهي لا نسبة له إلى غير المتناهي ، فهذا هو المراد من قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=212بغير حساب ) ، وهو إشارة إلى أنه لا نهاية لمقدورات الله تعالى .
وسادسها : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=212بغير حساب ) أي بغير استحقاق ، يقال : لفلان على فلان حساب ، إذا كان له عليه حق ، وهذا يدل على أنه لا يستحق عليه أحد شيئا ، وليس لأحد معه حساب ، بل كل ما أعطاه فقد أعطاه بمجرد الفضل والإحسان ، لا بسبب الاستحقاق .
وسابعها : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=212بغير حساب ) أي يزيد على قدر الكفاية ، يقال : فلان ينفق بالحساب إذا كان لا يزيد على قدر الكفاية ، فأما إذا زاد عليه فإنه يقال : ينفق بغير حساب .
وثامنها : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=212بغير حساب ) أي يعطي كثيرا ; لأن ما دخله الحساب فهو قليل .
واعلم أن هذه الوجوه كلها محتملة وعطايا الله لها منتظمة فيجوز أن يكون المراد كلها ، والله أعلم .
أما إذا حملنا الآية على
nindex.php?page=treesubj&link=29703ما يعطي في الدنيا أصناف عباده من المؤمنين والكافرين ففيه وجوه :
أحدها : وهو أليق بنظم الآية أن الكفار إنما كانوا يسخرون من فقراء المسلمين ; لأنهم كانوا يستدلون بحصول السعادات الدنيوية على أنهم على الحق ويحرمون فقراء المسلمين من تلك السعادات على أنهم على الباطل ، فالله تعالى أبطل هذه المقدمة بقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=212والله يرزق من يشاء بغير حساب ) يعني أنه يعطي في الدنيا من يشاء من غير أن يكون ذلك منبئا عن كون المعطى محقا أو مبطلا أو محسنا أو مسيئا ، وذلك متعلق بمحض المشيئة ، فقد وسع الدنيا على قارون ، وضيقها على أيوب عليه السلام ، فلا يجوز لكم أيها الكفار أن تستدلوا بحصول متاع الدنيا لكم وعدم حصولها لفقراء المسلمين على كونكم محقين وكونهم مبطلين ، بل الكافر قد يوسع عليه زيادة في الاستدراج ، والمؤمن قد يضيق عليه زيادة في الابتلاء والامتحان ، ولهذا قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=33ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ) [الزخرف : 33] .
وثانيها : أن المعنى : أن الله يرزق من يشاء في الدنيا من كافر ومؤمن بغير حساب يكون لأحد عليه ،
[ ص: 10 ] ولا مطالبة ، ولا تبعة ، ولا سؤال سائل ، والمقصود منه أن لا يقول الكافر : لو كان المؤمن على الحق فلم لم يوسع عليه في الدنيا ؟ وأن لا يقول المؤمن : إن كان الكافر مبطلا فلم يوسع عليه في الدنيا ؟ بل الاعتراض ساقط ، والأمر أمره ، والحكم حكمه (
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=23لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ) [الأنبياء : 23]
وثالثها : قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=212بغير حساب ) أي من حيث لا يحتسب ، كما يقول الرجل إذا جاءه ما لم يكن في تقديره : لم يكن هذا في حسابي ، فعلى هذا الوجه يكون معنى الآية : أن هؤلاء الكفار وإن كانوا يسخرون من الذين آمنوا لفقرهم ، فالله تعالى قد يرزق من يشاء من حيث لا يحتسب ، ولعله يفعل ذلك بالمؤمنين ، قال
القفال رحمه الله : وقد فعل ذلك بهم فأغناهم بما أفاء عليهم من أموال صناديد قريش ورؤساء اليهود ، وبما فتح على رسوله صلى الله عليه وسلم بعد وفاته على أيدي أصحابه حتى ملكوا كنوز
كسرى وقيصر .
فإن قيل : قد قال تعالى في صفة المتقين وما يصل إليهم (
nindex.php?page=tafseer&surano=78&ayano=36عطاء حسابا ) [النبأ : 36] أليس ذلك كالمناقض لما في هذه الآية .
قلنا : أما من حمل قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=212بغير حساب ) على التفضل ، وحمل قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=78&ayano=36عطاء حسابا ) على المستحق بحسب الوعد على ما هو قولنا ، أو بحسب الاستحقاق على ما هو قول
المعتزلة ، فالسؤال ساقط ، وأما من حمل قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=212بغير حساب ) على سائر الوجوه ، فله أن يقول : إن ذلك العطاء إذا كان يتشابه في الأوقات ويتماثل ، صح من هذا الوجه أن يوصف بكونه عطاء حسابا ، ولا ينقضه ما ذكرناه في معنى قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=212بغير حساب ) .
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=212وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) فَفِيهِ سُؤَالَاتٌ :
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ : لِمَ قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=212مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا ) ثُمَّ قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=212وَالَّذِينَ اتَّقَوْا ) ؟ .
الْجَوَابُ : لِيُظْهِرَ بِهِ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=19863_19889_29679_29680السَّعَادَةَ الْكُبْرَى لَا تَحْصُلُ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ التَّقِيِّ ، وَلِيَكُونَ بَاعِثًا لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَى التَّقْوَى .
السُّؤَالُ الثَّانِي : مَا الْمُرَادُ بِهَذِهِ الْفَوْقِيَّةِ ؟
الْجَوَابُ : فِيهِ وُجُوهٌ :
أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْفَوْقِيَّةِ الْفَوْقِيَّةَ بِالْمَكَانِ ; لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَكُونُونَ فِي عِلِّيِّينَ مِنَ السَّمَاءِ ، وَالْكَافِرِينَ يَكُونُونَ فِي سِجِّينٍ مِنَ الْأَرْضِ .
وَثَانِيهَا : يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْفَوْقِيَّةِ فِي الْكَرَامَةِ وَالدَّرَجَةِ .
فَإِنْ قِيلَ : إِنَّمَا يُقَالُ : فُلَانٌ فَوْقَ فُلَانٍ فِي الْكَرَامَةِ ، إِذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْكَرَامَةِ ثُمَّ يَكُونُ أَحَدُهُمَا أَزْيَدَ حَالًا مِنَ الْآخَرِ فِي تِلْكَ الْكَرَامَةِ ، وَالْكَافِرُ لَيْسَ لَهُ شَيْءٌ مِنَ الْكَرَامَةِ فَكَيْفَ يُقَالُ : الْمُؤْمِنُ فَوْقَهُ فِي الْكَرَامَةِ ؟
قُلْنَا : الْمُرَادُ أَنَّهُمْ كَانُوا فَوْقَهُمْ فِي سَعَادَاتِ الدُّنْيَا ثُمَّ فِي الْآخِرَةِ يَنْقَلِبُ الْأَمْرُ ، فَاللَّهُ تَعَالَى يُعْطِي الْمُؤْمِنَ مِنْ سَعَادَاتِ الْآخِرَةِ مَا يَكُونُ فَوْقَ السَّعَادَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ حَاصِلَةً لِلْكَافِرِينَ .
وَثَالِثُهَا : أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ : أَنَّهُمْ فَوْقَهُمْ فِي الْحُجَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ; وَذَلِكَ لِأَنَّ شُبَهَاتِ الْكُفَّارِ رُبَّمَا كَانَتْ تَقَعُ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ ، ثُمَّ إِنَّهُمْ كَانُوا يَرُدُّونَهَا عَنْ قُلُوبِهِمْ بِمَدَدِ تَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَأَمَّا يَوْمُ الْقِيَامَةِ فَلَا يَبْقَى شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ ، بَلْ تَزُولُ الشُّبَهَاتُ ، وَلَا تُؤَثِّرُ وَسَاوِسُ الشَّيْطَانِ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=83&ayano=29إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ ) إِلَى قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=83&ayano=34فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا ) [الْمُطَفِّفِينَ : 29] الْآيَةِ .
وَرَابِعُهَا : أَنَّ سُخْرِيَةَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْكُفَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَوْقَ سُخْرِيَةِ الْكَافِرِينَ بِالْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا ; لِأَنَّ سُخْرِيَةَ الْكَافِرِ بِالْمُؤْمِنِ بَاطِلَةٌ ، وَهِيَ مَعَ بُطْلَانِهَا مُنْقَضِيَةٌ ، وَسُخْرِيَةُ الْمُؤْمِنِ بِالْكَافِرِ فِي الْآخِرَةِ حَقَّةٌ ، وَمَعَ حَقِّيَّتِهَا هِيَ دَائِمَةٌ بَاقِيَةٌ .
السُّؤَالُ الثَّالِثُ : هَلْ تَدُلُّ الْآيَةُ عَلَى الْقَطْعِ بِوَعِيدِ الْفَسَادِ ؟ فَإِنَّ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : إِنَّهُ تَعَالَى خَصَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِهَذِهِ الْفَوْقِيَّةِ ، فَالَّذِينَ لَا يَكُونُونَ مَوْصُوفِينَ بِالتَّقْوَى وَجَبَ أَنْ لَا تَحْصُلَ لَهُمْ هَذِهِ الْفَوْقِيَّةُ ، وَإِنْ لَمْ تَحْصُلْ هَذِهِ الْفَوْقِيَّةُ كَانُوا مِنْ أَهْلِ النَّارِ .
الْجَوَابُ : هَذَا تَمَسَّكٌ بِالْمَفْهُومِ ، فَلَا يَكُونُ أَقْوَى فِي الدَّلَالَةِ مِنَ الْعُمُومَاتِ الَّتِي بَيَّنَّا أَنَّهَا مَخْصُوصَةٌ بِدَلَائِلِ الْعَفْوِ .
[ ص: 9 ]
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=212وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ
nindex.php?page=treesubj&link=19863مَا يُعْطِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الثَّوَابِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَا يُعْطِي فِي الدُّنْيَا أَصْنَافَ عَبِيدِهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ ، فَإِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى رِزْقِ الْآخِرَةِ احْتَمَلَ وُجُوهًا :
أَحَدُهَا : أَنَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ فِي الْآخِرَةِ ، وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ بِغَيْرِ حِسَابٍ ، أَيْ رِزْقًا وَاسِعًا رَغْدًا لَا فَنَاءَ لَهُ ، وَلَا انْقِطَاعَ ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=40فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ ) [غَافِرٍ : 40] فَإِنَّ كُلَّ مَا دَخَلَ تَحْتَ الْحِسَابِ وَالْحَصْرِ وَالتَّقْدِيرِ فَهُوَ مُتَنَاهٍ ، فَمَا لَا يَكُونُ مُتَنَاهِيًا كَانَ لَا مَحَالَةَ خَارِجًا عَنِ الْحِسَابِ .
وَثَانِيهَا : أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=30387الْمَنَافِعَ الْوَاصِلَةَ إِلَيْهِمْ فِي الْجَنَّةِ بَعْضُهَا ثَوَابٌ وَبَعْضُهَا تَفَضُّلٌ كَمَا قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=173فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ) [النِّسَاءِ : 173] فَالْفَضْلُ مِنْهُ بِلَا حِسَابٍ .
وَثَالِثُهَا : أَنَّهُ لَا يَخَافُ نَفَادَهَا عِنْدَهُ ، فَيَحْتَاجُ إِلَى حِسَابِ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ ; لِأَنَّ الْمُعْطِيَ إِنَّمَا يُحَاسِبُ لِيَعْلَمَ لِمِقْدَارِ مَا يُعْطِي وَمَا يَبْقَى ، فَلَا يَتَجَاوَزُ فِي عَطَايَاهُ إِلَى مَا يُجْحِفُ بِهِ ، وَاللَّهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى الْحِسَابِ ; لِأَنَّهُ عَالِمٌ غَنِيٌّ لَا نِهَايَةَ لِمَقْدُورَاتِهِ .
وَرَابِعُهَا : أَنَّهُ أَرَادَ بِهَذَا رِزْقَ أَهْلِ الْجَنَّةِ ; وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحِسَابَ إِنَّمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ إِذَا كَانَ بِحَيْثُ إِذَا أَعْطَى شَيْئًا انْتَقَصَ قَدْرَ الْوَاجِبِ عَمَّا كَانَ ، وَالثَّوَابُ لَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْأَدْوَارِ وَالْأَعْصَارِ يَكُونُ الثَّوَابُ الْمُسْتَحَقُّ بِحُكْمِ الْوَعْدِ وَالْفَضْلِ بَاقِيًا ، فَعَلَى هَذَا لَا يَتَطَرَّقُ الْحِسَابُ أَلْبَتَّةَ إِلَى الثَّوَابِ .
وَخَامِسُهَا : أَرَادَ أَنَّ الَّذِي يُعْطَى لَا نِسْبَةَ لَهُ إِلَى مَا فِي الْخِزَانَةِ ; لِأَنَّ الَّذِي يُعْطَى فِي كُلِّ وَقْتٍ يَكُونُ مُتَنَاهِيًا لَا مَحَالَةَ ، وَالَّذِي فِي خِزَانَةِ قُدْرَةِ اللَّهِ غَيْرُ مُتَنَاهٍ ، وَالْمُتَنَاهِي لَا نِسْبَةَ لَهُ إِلَى غَيْرِ الْمُتَنَاهِي ، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=212بِغَيْرِ حِسَابٍ ) ، وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَا نِهَايَةَ لِمَقْدُورَاتِ اللَّهِ تَعَالَى .
وَسَادِسُهَا : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=212بِغَيْرِ حِسَابٍ ) أَيْ بِغَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ ، يُقَالُ : لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ حِسَابٌ ، إِذَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ حَقٌّ ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ أَحَدٌ شَيْئًا ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ مَعَهُ حِسَابٌ ، بَلْ كُلُّ مَا أَعْطَاهُ فَقَدْ أَعْطَاهُ بِمُجَرَّدِ الْفَضْلِ وَالْإِحْسَانِ ، لَا بِسَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ .
وَسَابِعُهَا : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=212بِغَيْرِ حِسَابٍ ) أَيْ يَزِيدُ عَلَى قَدْرِ الْكِفَايَةِ ، يُقَالُ : فُلَانٌ يُنْفِقُ بِالْحِسَابِ إِذَا كَانَ لَا يَزِيدُ عَلَى قَدْرِ الْكِفَايَةِ ، فَأَمَّا إِذَا زَادَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يُقَالُ : يُنْفِقُ بِغَيْرِ حِسَابٍ .
وَثَامِنُهَا : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=212بِغَيْرِ حِسَابٍ ) أَيْ يُعْطِي كَثِيرًا ; لِأَنَّ مَا دَخَلَهُ الْحِسَابُ فَهُوَ قَلِيلٌ .
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْوُجُوهَ كُلَّهَا مُحْتَمَلَةٌ وَعَطَايَا اللَّهِ لَهَا مُنْتَظِمَةٌ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ كُلَّهَا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
أَمَّا إِذَا حَمَلْنَا الْآيَةَ عَلَى
nindex.php?page=treesubj&link=29703مَا يُعْطِي فِي الدُّنْيَا أَصْنَافَ عِبَادِهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ فَفِيهِ وُجُوهٌ :
أَحَدُهَا : وَهُوَ أَلْيَقُ بِنَظْمِ الْآيَةِ أَنَّ الْكُفَّارَ إِنَّمَا كَانُوا يَسْخَرُونَ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَدِلُّونَ بِحُصُولِ السَّعَادَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ عَلَى أَنَّهُمْ عَلَى الْحَقِّ وَيَحْرِمُونَ فُقَرَاءَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ تِلْكَ السَّعَادَاتِ عَلَى أَنَّهُمْ عَلَى الْبَاطِلِ ، فَاللَّهُ تَعَالَى أَبْطَلَ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ بِقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=212وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) يَعْنِي أَنَّهُ يُعْطِي فِي الدُّنْيَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُنْبِئًا عَنْ كَوْنِ الْمُعْطَى مُحِقًّا أَوْ مُبْطِلًا أَوْ مُحْسِنًا أَوْ مُسِيئًا ، وَذَلِكَ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْضِ الْمَشِيئَةِ ، فَقَدْ وَسَّعَ الدُّنْيَا عَلَى قَارُونَ ، وَضَيَّقَهَا عَلَى أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، فَلَا يَجُوزُ لَكُمْ أَيُّهَا الْكُفَّارُ أَنْ تَسْتَدِلُّوا بِحُصُولِ مَتَاعِ الدُّنْيَا لَكُمْ وَعَدَمِ حُصُولِهَا لِفُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى كَوْنِكُمْ مُحِقِّينَ وَكَوْنِهِمْ مُبْطِلِينَ ، بَلِ الْكَافِرُ قَدْ يُوَسَّعُ عَلَيْهِ زِيَادَةً فِي الِاسْتِدْرَاجِ ، وَالْمُؤْمِنُ قَدْ يُضَيَّقُ عَلَيْهِ زِيَادَةً فِي الِابْتِلَاءِ وَالِامْتِحَانِ ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=33وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ ) [الزُّخْرُفِ : 33] .
وَثَانِيهَا : أَنَّ الْمَعْنَى : أَنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ فِي الدُّنْيَا مِنْ كَافِرٍ وَمُؤْمِنٍ بِغَيْرِ حِسَابٍ يَكُونُ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ ،
[ ص: 10 ] وَلَا مُطَالَبَةٍ ، وَلَا تَبِعَةٍ ، وَلَا سُؤَالِ سَائِلٍ ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ أَنْ لَا يَقُولَ الْكَافِرُ : لَوْ كَانَ الْمُؤْمِنُ عَلَى الْحَقِّ فَلِمَ لَمْ يُوَسَّعْ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا ؟ وَأَنْ لَا يَقُولَ الْمُؤْمِنُ : إِنْ كَانَ الْكَافِرُ مُبْطِلًا فَلِمَ يُوَسَّعُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا ؟ بَلِ الِاعْتِرَاضُ سَاقِطٌ ، وَالْأَمْرُ أَمْرُهُ ، وَالْحُكْمُ حُكْمُهُ (
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=23لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ) [الْأَنْبِيَاءِ : 23]
وَثَالِثُهَا : قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=212بِغَيْرِ حِسَابٍ ) أَيْ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ، كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ إِذَا جَاءَهُ مَا لَمْ يَكُنْ فِي تَقْدِيرِهِ : لَمْ يَكُنْ هَذَا فِي حِسَابِي ، فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ مَعْنَى الْآيَةِ : أَنَّ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ وَإِنْ كَانُوا يَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا لِفَقْرِهِمْ ، فَاللَّهُ تَعَالَى قَدْ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ، وَلَعَلَّهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ، قَالَ
الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ فَأَغْنَاهُمْ بِمَا أَفَاءَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَمْوَالِ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ وَرُؤَسَاءِ الْيَهُودِ ، وَبِمَا فَتَحَ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ وَفَاتِهِ عَلَى أَيْدِي أَصْحَابِهِ حَتَّى مَلَكُوا كُنُوزَ
كِسْرَى وَقَيْصَرَ .
فَإِنْ قِيلَ : قَدْ قَالَ تَعَالَى فِي صِفَةِ الْمُتَّقِينَ وَمَا يَصِلُ إِلَيْهِمْ (
nindex.php?page=tafseer&surano=78&ayano=36عَطَاءً حِسَابًا ) [النَّبَأِ : 36] أَلَيْسَ ذَلِكَ كَالْمُنَاقِضِ لِمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ .
قُلْنَا : أَمَّا مَنْ حَمَلَ قَوْلَهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=212بِغَيْرِ حِسَابٍ ) عَلَى التَّفَضُّلِ ، وَحَمَلَ قَوْلَهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=78&ayano=36عَطَاءً حِسَابًا ) عَلَى الْمُسْتَحِقِّ بِحَسَبِ الْوَعْدِ عَلَى مَا هُوَ قَوْلُنَا ، أَوْ بِحَسَبِ الِاسْتِحْقَاقِ عَلَى مَا هُوَ قَوْلُ
الْمُعْتَزِلَةِ ، فَالسُّؤَالُ سَاقِطٌ ، وَأَمَّا مَنْ حَمَلَ قَوْلَهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=212بِغَيْرِ حِسَابٍ ) عَلَى سَائِرِ الْوُجُوهِ ، فَلَهُ أَنْ يَقُولَ : إِنَّ ذَلِكَ الْعَطَاءَ إِذَا كَانَ يَتَشَابَهُ فِي الْأَوْقَاتِ وَيَتَمَاثَلُ ، صَحَّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَنْ يُوصَفَ بِكَوْنِهِ عَطَاءً حِسَابًا ، وَلَا يَنْقُضُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=212بِغَيْرِ حِسَابٍ ) .