وأخيرا يوجه الله - سبحانه - رسوله - صلى الله عليه وسلم - إلى مواجهة المشركين في موقف الإشهاد على قضية التشريع ، كما واجههم من قبل في موقف الإشهاد على قضية الألوهية في أوائل السورة :
في أوائل السورة قال له :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=19قل : أي شيء أكبر شهادة؟ قل الله . شهيد بيني وبينكم ، وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن [ ص: 1228 ] بلغ . أإنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى؟ قل : لا أشهد . قل : إنما هو إله واحد ، وإنني بريء مما تشركون . .
وهنا قال له :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=150قل : هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا . فإن شهدوا فلا تشهد معهم . ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا والذين لا يؤمنون بالآخرة ، وهم بربهم يعدلون . .
إنها مواجهة هائلة ، ومواجهة كذلك فاصلة . ودلالتها على طبيعة هذا الدين غير خافية . . إن هذا الدين يسوي بين الشرك العلني الواضح باتخاذ آلهة أخرى مع الله ; وبين الشرك الآخر الذي يتمثل في مزاولة حق الحاكمية والتشريع للناس بما لم يأذن به الله - دون اعتبار لما يدعونه هم من أن ما يشرعونه هو شريعة الله ! - كما أنه يصم الذين يرتكبون هذه الفعلة بأنهم يكذبون بآيات الله ، ولا يؤمنون بالآخرة ، وهم بربهم يعدلون . . أي يجعلون ه أندادا تعدله . . وهو ذات التعبير الذي جاء في أول آية في السورة وصفا للذين كفروا :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=1الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض ، وجعل الظلمات والنور ، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون . .
هذا حكم الله على الذين يغتصبون حق الحاكمية ويزاولونه بالتشريع للناس - دون اعتبار لدعواهم أن ما يشرعونه هو من شريعة الله ! - وليس بعد حكم الله رأي لأحد في هذه القضية الخطيرة .
فإذا أردنا أن نفهم لماذا يقضي الله - سبحانه - بهذا الحكم؟ ولماذا يعدهم مكذبين بآياته ; غير مؤمنين بالآخرة ، مشركين يعدلون بربهم غيره . . فإن لنا أن نحاول الفهم . فتدبر حكمة الله في شرعه وحكمه أمر مطلوب من المسلم . .
إن الله قد حكم على المشرعين للناس من عند أنفسهم - مهما قالوا إنه من شرع الله - بأنهم يكذبون بآياته . لأن آياته - إن كان المراد بها آياته الكونية - كلها تشهد بأنه الخالق الرازق الواحد . . والخالق الرازق هو المالك . فيجب أن يكون وحده المتصرف الحاكم . . فمن لم يفرده - سبحانه - بالحاكمية فقد كذب بآياته هذه . . وإن كان المقصود آياته القرآنية ، فالنصوص فيها حاسمة وصريحة وواضحة في وجوب إفراده - سبحانه - بالحاكمية في حياة البشر الواقعية ، واتخاذ شريعته وحدها قانونا ، وتعبيد الناس له وحده بالشرع النافذ والحكم القاهر . .
كذلك حكم عليهم - سبحانه - بأنهم لا يؤمنون بالآخرة . . فالذي يؤمن بالآخرة ، ويوقن أنه ملاق ربه يوم القيامة ، لا يمكن أن يعتدي على ألوهية الله ، ويدعي لنفسه حقه الذي يتفرد به . وهو حق الحاكمية المطلقة في حياة البشر . ممثلة هذه الحاكمية في قضائه وقدره ، وفي شريعته وحكمه . .
ثم حكم عليهم في النهاية بأنهم بربهم يعدلون . . أي أنه حكم عليهم بالشرك الذي وصف به الكافرين . . ذلك أنهم لو كانوا موحدين ما شاركوا الله - سبحانه - في حق الحاكمية الذي تفرد به . أو ما قبلوا من عبد أن يدعيه ويزاوله وهم راضون !
هذه - فيما يبدو لنا - هي علة حكم الله على من يزاولون حق الحاكمية ويشرعون للناس ما لم يأذن به ، بالتكذيب بآياته ، وعدم الإيمان بالآخرة والشرك الذي يتحقق به الكفر . . أما الحكم ذاته فلا يملك " مسلم " أن يجادل فيه . فقد صدرت فيه كلمة الفصل التي لا معقب عليها . فلينظر كل " مسلم " كيف يتأدب أمام كلمة العزيز الحكيم . .
[ ص: 1229 ] وبعد موقف الإشهاد ورفض ما يقررونه من المحرمات ، يلقي إليهم بالمقررات الإلهية التي تتضمن ما حرمه الله حقا . . وسنجد إلى جانب ما حرمه بعض التكاليف الإيجابية التي لها مقابل محرم . وهذه المحرمات تبدأ بالمحرم الأول . . وهو
nindex.php?page=treesubj&link=28662_28666الشرك بالله . . لأن هذه هي القاعدة الأولى التي يجب أن تتقرر ، لتقوم عليها المحرمات والنواهي ، لمن استسلم لها وأسلم :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=151قل : تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم : ألا تشركوا به شيئا . وبالوالدين إحسانا ، ولا تقتلوا أولادكم من إملاق ، نحن نرزقكم وإياهم . ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن . ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق . . ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون . . nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=152ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ، حتى يبلغ أشده ، وأوفوا الكيل والميزان بالقسط - لا نكلف نفسا إلا وسعها - وإذا قلتم فاعدلوا - ولو كان ذا قربى - وبعهد الله أوفوا . . ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون . nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=153وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ، ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله . . ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون . . .
وننظر في هذه الوصايا - التي ترد في السياق بمناسبة الحديث عن تشريعات الأنعام والثمار وأوهام الجاهلية وتصوراتها وتصرفاتها - فإذا هي قوام هذا الدين كله . . إنها قوام حياة الضمير بالتوحيد ، وقوام حياة الأسرة بأجيالها المتتابعة ، وقوام حياة المجتمع بالتكافل والطهارة فيما يجري فيه من معاملات ، وقوام حياة الإنسانية وما يحوط الحقوق فيها من ضمانات ، مرتبطة بعهد الله ، كما أنها بدئت بتوحيد الله . .
وننظر في ختام هذه الوصايا ، فإذا الله - سبحانه وتعالى - يقرر أن هذا صراطه المستقيم ; وكل ما عداه سبل تتفرق بالناس عن سبيله الواصل . . الوحيد . .
إنه أمر هائل هذا الذي تتضمنه الآيات الثلاث . . أمر هائل يجيء في أعقاب قضية تبدو كأنها لمحة جانبية من الجاهلية ; ولكنها في الحقيقة هي قضية هذا الدين الأساسية ; بدلالة ربطها بهذه الوصايا الهائلة الكلية . .
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=151قل : تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم . .
قل : تعالوا أقص عليكم ما حرمه عليكم ربكم - لا ما تدعون أنتم أنه حرمه بزعمكم - ! لقد حرمه عليكم " ربكم " الذي له وحده حق الربوبية - وهي القوامة والتربية والتوجيه والحاكمية - وإذن فهو اختصاصه ، وموضع سلطانه . فالذي يحرم هو " الرب " والله هو وحده الذي يجب أن يكون ربا . .
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=151ألا تشركوا به شيئا . .
القاعدة التي يقوم عليها بناء العقيدة ; وترجع إليها التكاليف والفرائض ، وتستمد منها الحقوق والواجبات . .
القاعدة التي يجب أن تقوم أولا قبل الدخول في الأوامر والنواهي ; وقبل الدخول في التكاليف والفرائض ، وقبل الدخول في النظام والأوضاع ; وقبل الدخول في الشرائع والأحكام . . يجب ابتداء أن يعترف الناس بربوبية الله وحده لهم في حياتهم كما يعترفون بألوهيته وحده في عقيدتهم ; لا يشركون معه أحدا في ألوهيته ، ولا يشركون معه أحدا في ربوبيته كذلك . يعترفون له وحده بأنه المتصرف في شؤون هذا الكون في عالم الأسباب والأقدار ; ويعترفون له وحده بأنه المتصرف في حسابهم وجزائهم يوم الدين ; ويعترفون له وحده بأنه هو المتصرف في شؤون العباد في عالم الحكم والشريعة كلها سواء . .
إنها تنقية الضمير من أوشاب الشرك ، وتنقية العقل من أوشاب الخرافة ، وتنقية المجتمع من
nindex.php?page=treesubj&link=30578تقاليد الجاهلية ، وتنقية الحياة من
nindex.php?page=treesubj&link=28676_28675_28673عبودية العباد للعباد . .
إن الشرك - في كل صوره - هو المحرم الأول لأنه يجر إلى كل محرم . وهو المنكر الأول الذي يجب حشد
[ ص: 1230 ] الإنكار كله له ; حتى يعترف الناس أن لا إله لهم إلا الله ، ولا رب لهم إلا الله ، ولا حاكم لهم إلا الله ، ولا مشرع لهم إلا الله . كما أنهم لا يتوجهون بالشعائر لغير الله . .
وإن التوحيد - على إطلاقه - لهو القاعدة الأولى التي لا يغني غناءها شيء آخر ، من عبادة أو خلق أو عمل . . من أجل ذلك تبدأ الوصايا كلها بهذه القاعدة :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=151ألا تشركوا به شيئا . .
وينبغي أن نلتفت إلى ما قبل هذه الوصايا ، لنعلم ماذا يراد بالشرك الذي ينهى عنه في مقدمة الوصايا - لقد كان السياق كله بصدد قضية معينة - قضية التشريع ومزاولة حق الحاكمية في إصداره - وقبل آية واحدة كان موقف الإشهاد الذي يحسن أن نعيد نصه :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=150قل : هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا . فإن شهدوا فلا تشهد معهم . ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا ، والذين لا يؤمنون بالآخرة ، وهم بربهم يعدلون . .
يجب أن نذكر هذه الآية ، وما قلناه عنها في الصفحات السابقة لندرك ماذا يعني السياق القرآني هنا بالشرك الذي ينهى عنه ابتداء . . إنه
nindex.php?page=treesubj&link=28662_28666الشرك في الاعتقاد ، كما أنه
nindex.php?page=treesubj&link=28662_28666الشرك في الحاكمية . فالسياق حاضر ، والمناسبة فيه حاضرة . .
ونحن نحتاج إلى هذا التذكير المستمر ، لأن جهود الشياطين في زحزحة هذا الدين عن مفهوماته الأساسية ، قد آتت ثمارها - مع الأسف - فجعلت مسألة الحاكمية تتزحزح عن مكان العقيدة ، وتنفصل في الحس عن أصلها الاعتقادي ! ومن ثم نجد حتى الغيورين على الإسلام ، يتحدثون لتصحيح شعيرة تعبدية ; أو لاستنكار انحلال أخلاقي ; أو لمخالفة من المخالفات القانونية . ولكنهم لا يتحدثون عن أصل الحاكمية ، وموقعها من العقيدة الإسلامية ! يستنكرون المنكرات الجانبية الفرعية ، ولا يستنكرون المنكر الأكبر ; وهو قيام الحياة في غير التوحيد ; أي على غير إفراد الله - سبحانه - بالحاكمية . .
إن الله قبل أن يوصي الناس أي وصية ، أوصاهم ألا يشركوا به شيئا . في موضع من السياق القرآني يحدد المعني بالشرك الذي تبدأ بالنهي عنه جميع الوصايا !
إنها القاعدة التي يرتبط على أساسها الفرد بالله على بصيرة ، وترتبط بها الجماعة بالمعيار الثابت الذي ترجع إليه في كافة الروابط ; وبالقيم الأساسية التي تحكم الحياة البشرية . . فلا تظل نهبا لريح الشهوات والنزوات ، واصطلاحات البشر التي تتراوح مع الشهوات والنزوات . .
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=151وبالوالدين إحسانا . ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم . .
إنها رابطة الأسرة بأجيالها المتلاحقة - تقوم بعد الرابطة في الله ووحدة الاتجاه - ولقد علم الله - سبحانه - أنه أرحم بالناس من الآباء والأبناء . فأوصى الأبناء بالآباء ، وأوصى الآباء بالأبناء ; وربط الوصية بمعرفة ألوهيته الواحدة ، والارتباط بربوبيته المتفردة . وقال لهم : إنه هو الذي يكفل لهم الرزق ، فلا يضيقوا بالتبعات تجاه الوالدين في كبرتهما ; ولا تجاه الأولاد في ضعفهم ، ولا يخافوا الفقر والحاجة فالله يرزقهم جميعا . .
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=151ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن . .
ولما وصاهم الله بالأسرة ، وصاهم بالقاعدة التي تقوم عليها - كما يقوم عليها المجتمع كله - وهي قاعدة
[ ص: 1231 ] النظافة والطهارة والعفة . فنهاهم عن
nindex.php?page=treesubj&link=33501الفواحش ظاهرها وخافيها . . فهو نهي مرتبط تماما بالوصية السابقة عليها . . وبالوصية الأولى التي تقوم عليها كافة الوصايا .
إنه لا يمكن قيام أسرة ، ولا استقامة مجتمع ، في وحل الفواحش ما ظهر منها وما بطن . . إنه لا بد من طهارة ونظافة وعفة لتقوم الأسرة وليقوم المجتمع . والذين يحبون أن تشيع الفاحشة هم الذين يحبون أن تتزعزع قوائم الأسرة وأن ينهار المجتمع .
والفواحش : كل ما أفحش - أي تجاوز الحد - وإن كانت أحيانا تخص بنوع منها هو
nindex.php?page=treesubj&link=10275فاحشة الزنا . ويغلب على الظن أن يكون هذا هو المعنى المراد في هذا الموضع . لأن المجال مجال تعديد محرمات بذاتها ، فتكون هذه واحدة منها بعينها . وإلا فقتل النفس فاحشة ، وأكل مال اليتيم فاحشة ، والشرك بالله فاحشة الفواحش . فتخصيص " الفواحش " هنا بفواحش الزنا أولى بطبيعة السياق . وصيغة الجمع ، لأن هذه الجريمة ذات مقدمات وملابسات كلها فاحشة مثلها . فالتبرج ، والتهتك ، والاختلاط المثير ، والكلمات والإشارات والحركات والضحكات الفاجرة ، والإغراء والتزيين والاستثارة . . . كلها فواحش تحيط بالفاحشة الأخيرة . وكلها فواحش منها الظاهر ومنها الباطن . منها المستسر في الضمير ومنها البادي في الجوارح . منها المخبوء المستور ومنها المعلن المكشوف ! وكلها مما يحطم قوام الأسرة ، وينخر في جسم الجماعة ، فوق ما يلطخ ضمائر الأفراد ، ويحقر من اهتماماتهم ، ومن ثم جاءت بعد الحديث عن الوالدين والأولاد .
ولأن هذه
nindex.php?page=treesubj&link=33501الفواحش ذات إغراء وجاذبية ، كان التعبير :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=151ولا تقربوا . . للنهي عن مجرد الاقتراب ،
nindex.php?page=treesubj&link=20750_20484سدا للذرائع ، واتقاء للجاذبية التي تضعف معها الإرادة . . لذلك
nindex.php?page=treesubj&link=18445حرمت النظرة الثانية - بعد الأولى غير المتعمدة - ولذلك كان الاختلاط ضرورة تتاح بقدر الضرورة . ولذلك كان التبرج - حتى بالتعطر في الطريق - حراما ، وكانت الحركات المثيرة ، والضحكات المثيرة ، والإشارات المثيرة ، ممنوعة في الحياة الإسلامية النظيفة . . فهذا الدين لا يريد أن يعرض الناس للفتنة ثم يكلف أعصابهم عنتا في المقاومة ! فهو دين وقاية قبل أن يقيم الحدود ، ويوقع العقوبات . وهو دين حماية للضمائر والمشاعر والحواس والجوارح . وربك أعلم بمن خلق ، وهو اللطيف الخبير . .
وكذلك نعلم ما الذي يريده بهذا الدين ، وبحياة المجتمع كله وبحياة الأسرة ، من يزينون للناس الشهوات ، ومن يطلقون الغرائز من عقالها بالكلمة والصورة والقصة والفيلم وبالمعسكر المختلط وبسائر أدوات التوجيه والإعلام !
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=151ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق . .
ويكثر في السياق القرآني مجيء النهي عن هذه المنكرات الثلاثة متتابعة : الشرك ، والزنا ، وقتل النفس . . ذلك أنها كلها جرائم قتل في الحقيقة ! الجريمة الأولى جريمة قتل للفطرة ; والثانية جريمة قتل للجماعة ، والثالثة جريمة قتل للنفس المفردة . . إن الفطرة التي لا تعيش على التوحيد فطرة ميتة . والجماعة التي تشيع فيها الفاحشة جماعة ميتة ، منتهية حتما إلى الدمار . والحضارة الإغريقية والحضارة الرومانية والحضارة الفارسية . شواهد من التاريخ . ومقدمات الدمار والانهيار في الحضارة الغربية تنبئ بالمصير المرتقب لأمم ينخر
[ ص: 1232 ] فيها كل هذا الفساد . والمجتمع الذي تشيع فيه المقاتل والثارات ، مجتمع مهدد بالدمار . . ومن ثم يجعل الإسلام عقوبة هذه الجرائم هي أقسى العقوبات ، لأنه يريد حماية مجتمعه من عوامل الدمار .
ولقد سبق النهي عن قتل الأولاد من إملاق . فالآن ينهى عن قتل " النفس " عامة . فيوحي بأن كل قتل فردي إنما يقع على جنس " النفس " في عمومه . تؤيد هذا الفهم آية :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=32 . . . أنه من قتل نفسا ، بغير نفس أو فساد في الأرض ، فكأنما قتل الناس جميعا ، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا . . فالاعتداء إنما يقع على حق الحياة ذاتها ، وعلى النفس البشرية في عمومها . وعلى هذه القاعدة كفل الله حرمة النفس ابتداء . وهناك طمأنينة الجماعة المسلمة في دار الإسلام وأمنها ، وانطلاق كل فرد فيها ليعمل وينتج آمنا على حياته ، لا يؤذى فيها إلا بالحق . والحق الذي تؤخذ به النفس بينه الله في شريعته ، ولم يتركه للتقدير والتأويل . ولكنه لم يبينه ليصبح شريعة إلا بعد أن قامت الدولة المسلمة ، وأصبح لها من السلطان ما يكفل لها تنفيذ الشريعة !
وهذه اللفتة لها قيمتها في تعريفنا بطبيعة منهج هذا الدين في النشأة والحركة . فحتى هذه القواعد الأساسية في حياة المجتمع ، لم يفصلها القرآن إلا في مناسبتها العملية .
وقبل أن يمضي السياق في بيان المحرمات والتكاليف ، يفصل بين هذا القسم والذي يليه بإبراز وصية الله وأمره وتوجيهه :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=151ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون .
وهذا التعقيب يجيء وفق المنهج القرآني في ربط كل أمر وكل نهي بالله . تقريرا لوحدة السلطة التي تأمر وتنهى في الناس ، وربطا للأوامر والنواهي بهذه السلطة التي تجعل للأمر والنهي وزنه في ضمائر الناس !
كذلك تجيء فيه الإشارة إلى التعقل . فالعقل يقتضي أن تكون هذه السلطة وحدها هي التي تعبد الناس لشرعها . وقد سبق أنها سلطة الخالق الرازق المتصرف في حياة الناس !
وهذا وذلك فوق ما في الطائفة الأولى من التجانس . وما بين الطائفة الثانية كذلك من التجانس . فجعل هذه في آية ، وتلك في آية ، وبينهما هذا الإيقاع .
وَأَخِيرًا يُوَجِّهُ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ - رَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى مُوَاجَهَةِ الْمُشْرِكِينَ فِي مَوْقِفِ الْإِشْهَادِ عَلَى قَضِيَّةِ التَّشْرِيعِ ، كَمَا وَاجَهَهُمْ مِنْ قَبْلُ فِي مَوْقِفِ الْإِشْهَادِ عَلَى قَضِيَّةِ الْأُلُوهِيَّةِ فِي أَوَائِلِ السُّورَةِ :
فِي أَوَائِلِ السُّورَةِ قَالَ لَهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=19قُلْ : أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً؟ قُلْ اللَّهُ . شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ، وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ [ ص: 1228 ] بَلَغَ . أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهُ آلِهَةً أُخْرَى؟ قُلْ : لا أَشْهَدُ . قُلْ : إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ ، وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ . .
وَهُنَا قَالَ لَهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=150قُلْ : هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا . فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ . وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ ، وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ . .
إِنَّهَا مُوَاجَهَةٌ هَائِلَةٌ ، وَمُوَاجَهَةٌ كَذَلِكَ فَاصِلَةٌ . وَدَلَالَتُهَا عَلَى طَبِيعَةِ هَذَا الدِّينِ غَيْرُ خَافِيَةٍ . . إِنَّ هَذَا الدِّينَ يُسَوِّي بَيْنَ الشِّرْكِ الْعَلَنِيِّ الْوَاضِحِ بِاتِّخَاذِ آلِهَةٍ أُخْرَى مَعَ اللَّهِ ; وَبَيْنَ الشِّرْكِ الْآخَرِ الَّذِي يَتَمَثَّلُ فِي مُزَاوَلَةِ حَقِّ الْحَاكِمِيَّةِ وَالتَّشْرِيعِ لِلنَّاسِ بِمَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ - دُونَ اعْتِبَارٍ لِمَا يَدَّعُونَهُ هُمْ مِنْ أَنَّ مَا يَشْرَعُونَهُ هُوَ شَرِيعَةُ اللَّهِ ! - كَمَا أَنَّهُ يَصِمُ الَّذِينَ يَرْتَكِبُونَ هَذِهِ الْفِعْلَةَ بِأَنَّهُمْ يُكَذِّبُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ، وَلَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ ، وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ . . أَيْ يَجْعَلُونَ َهُ أَنْدَادًا تَعْدِلُهُ . . وَهُوَ ذَاتُ التَّعْبِيرِ الَّذِي جَاءَ فِي أَوَّلِ آيَةٍ فِي السُّورَةِ وَصْفًا لِلَّذِينِ كَفَرُوا :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=1الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ ، وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ، ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ . .
هَذَا حُكْمُ اللَّهِ عَلَى الَّذِينَ يَغْتَصِبُونَ حَقَّ الْحَاكِمِيَّةِ وَيُزَاوِلُونَهُ بِالتَّشْرِيعِ لِلنَّاسِ - دُونَ اعْتِبَارٍ لِدَعْوَاهُمْ أَنَّ مَا يَشْرَعُونَهُ هُوَ مِنْ شَرِيعَةِ اللَّهِ ! - وَلَيْسَ بَعْدَ حُكْمِ اللَّهِ رَأْيٌ لِأَحَدٍ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ الْخَطِيرَةِ .
فَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نَفْهَمَ لِمَاذَا يَقْضِي اللَّهُ - سُبْحَانَهُ - بِهَذَا الْحُكْمِ؟ وَلِمَاذَا يَعُدُّهُمْ مُكَذِّبِينَ بِآيَاتِهِ ; غَيْرَ مُؤْمِنِينَ بِالْآخِرَةِ ، مُشْرِكِينَ يَعْدِلُونَ بِرَبِّهِمْ غَيْرَهُ . . فَإِنَّ لَنَا أَنْ نُحَاوِلَ الْفَهْمَ . فَتَدَبُّرُ حِكْمَةِ اللَّهِ فِي شَرْعِهِ وَحُكْمِهِ أَمْرٌ مَطْلُوبٌ مِنَ الْمُسْلِمِ . .
إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ عَلَى الْمُشَرِّعِينَ لِلنَّاسِ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ - مَهْمَا قَالُوا إِنَّهُ مِنْ شَرْعِ اللَّهِ - بِأَنَّهُمْ يُكَذِّبُونَ بِآيَاتِهِ . لِأَنَّ آيَاتِهِ - إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهَا آيَاتُهُ الْكَوْنِيَّةُ - كُلُّهَا تَشْهَدُ بِأَنَّهُ الْخَالِقُ الرَّازِقُ الْوَاحِدُ . . وَالْخَالِقُ الرَّازِقُ هُوَ الْمَالِكُ . فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ وَحْدَهُ الْمُتَصَرِّفَ الْحَاكِمَ . . فَمَنْ لَمْ يُفْرِدْهُ - سُبْحَانَهُ - بِالْحَاكِمِيَّةِ فَقَدْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ هَذِهِ . . وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ آيَاتِهِ الْقُرْآنِيَّةَ ، فَالنُّصُوصُ فِيهَا حَاسِمَةٌ وَصَرِيحَةٌ وَوَاضِحَةٌ فِي وُجُوبِ إِفْرَادِهِ - سُبْحَانَهُ - بِالْحَاكِمِيَّةِ فِي حَيَاةِ الْبَشَرِ الْوَاقِعِيَّةِ ، وَاتِّخَاذِ شَرِيعَتِهِ وَحْدَهَا قَانُونًا ، وَتَعْبِيدِ النَّاسِ لَهُ وَحْدَهُ بِالشَّرْعِ النَّافِذِ وَالْحُكْمِ الْقَاهِرِ . .
كَذَلِكَ حَكَمَ عَلَيْهِمْ - سُبْحَانَهُ - بِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ . . فَالَّذِي يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ ، وَيُوقِنُ أَنَّهُ مُلَاقٍ رَبَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، لَا يُمْكِنُ أَنْ يَعْتَدِيَ عَلَى أُلُوهِيَّةِ اللَّهِ ، وَيَدَّعِيَ لِنَفْسِهِ حَقَّهُ الَّذِي يَتَفَرَّدُ بِهِ . وَهُوَ حَقُّ الْحَاكِمِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ فِي حَيَاةِ الْبَشَرِ . مُمَثَّلَةٌ هَذِهِ الْحَاكِمِيَّةُ فِي قَضَائِهِ وَقَدَرِهِ ، وَفِي شَرِيعَتِهِ وَحُكْمِهِ . .
ثُمَّ حَكَمَ عَلَيْهِمْ فِي النِّهَايَةِ بِأَنَّهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ . . أَيْ أَنَّهُ حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِالشِّرْكِ الَّذِي وَصَفَ بِهِ الْكَافِرِينَ . . ذَلِكَ أَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا مُوَحِّدِينَ مَا شَارَكُوا اللَّهَ - سُبْحَانَهُ - فِي حَقِّ الْحَاكِمِيَّةِ الَّذِي تَفَرَّدَ بِهِ . أَوْ مَا قَبِلُوا مِنْ عَبْدٍ أَنْ يَدَّعِيَهُ وَيُزَاوِلَهُ وَهُمْ رَاضُونَ !
هَذِهِ - فِيمَا يَبْدُو لَنَا - هِيَ عِلَّةُ حُكْمِ اللَّهِ عَلَى مَنْ يُزَاوِلُونَ حَقَّ الْحَاكِمِيَّةِ وَيُشَرِّعُونَ لِلنَّاسِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ ، بِالتَّكْذِيبِ بِآيَاتِهِ ، وَعَدَمِ الْإِيمَانِ بِالْآخِرَةِ وَالشِّرْكِ الَّذِي يَتَحَقَّقُ بِهِ الْكُفْرُ . . أَمَّا الْحُكْمُ ذَاتُهُ فَلَا يَمْلِكُ " مُسْلِمٌ " أَنْ يُجَادِلَ فِيهِ . فَقَدْ صَدَرَتْ فِيهِ كَلِمَةُ الْفَصْلِ الَّتِي لَا مُعَقِّبَ عَلَيْهَا . فَلْيَنْظُرْ كُلُّ " مُسْلِمٍ " كَيْفَ يَتَأَدَّبُ أَمَامَ كَلِمَةِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ . .
[ ص: 1229 ] وَبَعْدَ مَوْقِفِ الْإِشْهَادِ وَرَفْضِ مَا يُقَرِّرُونَهُ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ ، يُلْقِي إِلَيْهِمْ بِالْمُقَرَّرَاتِ الْإِلَهِيَّةِ الَّتِي تَتَضَمَّنُ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ حَقًّا . . وَسَنَجِدُ إِلَى جَانِبِ مَا حَرَّمَهُ بَعْضَ التَّكَالِيفِ الْإِيجَابِيَّةِ الَّتِي لَهَا مُقَابِلٌ مُحَرَّمٌ . وَهَذِهِ الْمُحَرَّمَاتُ تَبْدَأُ بِالْمُحَرَّمِ الْأَوَّلِ . . وَهُوَ
nindex.php?page=treesubj&link=28662_28666الشِّرْكُ بِاللَّهِ . . لِأَنَّ هَذِهِ هِيَ الْقَاعِدَةُ الْأُولَى الَّتِي يَجِبُ أَنْ تَتَقَرَّرَ ، لِتَقُومَ عَلَيْهَا الْمُحَرَّمَاتُ وَالنَّوَاهِي ، لِمَنِ اسْتَسْلَمَ لَهَا وَأَسْلَمَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=151قُلْ : تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ : أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا . وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ، وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ ، نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ . وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ . وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ . . ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ . . nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=152وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ، حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ، وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ - لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا - وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا - وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى - وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا . . ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ . nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=153وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ، وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ . . ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ . . .
وَنَنْظُرُ فِي هَذِهِ الْوَصَايَا - الَّتِي تَرِدُ فِي السِّيَاقِ بِمُنَاسَبَةِ الْحَدِيثِ عَنْ تَشْرِيعَاتِ الْأَنْعَامِ وَالثِّمَارِ وَأَوْهَامِ الْجَاهِلِيَّةِ وَتَصَوُّرَاتِهَا وَتَصَرُّفَاتِهَا - فَإِذَا هِيَ قِوَامُ هَذَا الدِّينِ كُلِّهِ . . إِنَّهَا قِوَامُ حَيَاةِ الضَّمِيرِ بِالتَّوْحِيدِ ، وَقِوَامُ حَيَاةِ الْأُسْرَةِ بِأَجْيَالِهَا الْمُتَتَابِعَةِ ، وَقِوَامُ حَيَاةِ الْمُجْتَمَعِ بِالتَّكَافُلِ وَالطَّهَارَةِ فِيمَا يَجْرِي فِيهِ مِنْ مُعَامَلَاتٍ ، وَقِوَامُ حَيَاةِ الْإِنْسَانِيَّةِ وَمَا يَحُوطُ الْحُقُوقَ فِيهَا مِنْ ضَمَانَاتٍ ، مُرْتَبِطَةٌ بِعَهْدِ اللَّهِ ، كَمَا أَنَّهَا بُدِئَتْ بِتَوْحِيدِ اللَّهِ . .
وَنَنْظُرُ فِي خِتَامِ هَذِهِ الْوَصَايَا ، فَإِذَا اللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - يُقَرِّرُ أَنَّ هَذَا صِرَاطُهُ الْمُسْتَقِيمُ ; وَكُلُّ مَا عَدَاهُ سُبُلٌ تَتَفَرَّقُ بِالنَّاسِ عَنْ سَبِيلِهِ الْوَاصِلِ . . الْوَحِيدِ . .
إِنَّهُ أَمْرٌ هَائِلٌ هَذَا الَّذِي تَتَضَمَّنُهُ الْآيَاتُ الثَّلَاثُ . . أَمْرٌ هَائِلٌ يَجِيءُ فِي أَعْقَابِ قَضِيَّةٍ تَبْدُو كَأَنَّهَا لَمْحَةٌ جَانِبِيَّةٌ مِنَ الْجَاهِلِيَّةِ ; وَلَكِنَّهَا فِي الْحَقِيقَةِ هِيَ قَضِيَّةُ هَذَا الدِّينِ الْأَسَاسِيَّةُ ; بِدَلَالَةِ رَبْطِهَا بِهَذِهِ الْوَصَايَا الْهَائِلَةِ الْكُلِّيَّةِ . .
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=151قُلْ : تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ . .
قُلْ : تَعَالَوْا أَقُصُّ عَلَيْكُمْ مَا حَرَّمَهُ عَلَيْكُمْ رَبُّكُمْ - لَا مَا تَدَّعُونَ أَنْتُمْ أَنَّهُ حَرَّمَهُ بِزَعْمِكُمْ - ! لَقَدْ حَرَّمَهُ عَلَيْكُمْ " رَبُّكُمُ " الَّذِي لَهُ وَحْدَهُ حَقُّ الرُّبُوبِيَّةِ - وَهِيَ الْقِوَامَةُ وَالتَّرْبِيَةُ وَالتَّوْجِيهُ وَالْحَاكِمِيَّةُ - وَإِذَنْ فَهُوَ اخْتِصَاصُهُ ، وَمَوْضِعُ سُلْطَانِهِ . فَالَّذِي يُحَرِّمُ هُوَ " الرَّبُّ " وَاللَّهُ هُوَ وَحْدَهُ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يَكُونَ رَبًّا . .
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=151أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا . .
الْقَاعِدَةُ الَّتِي يَقُومُ عَلَيْهَا بِنَاءُ الْعَقِيدَةِ ; وَتَرْجِعُ إِلَيْهَا التَّكَالِيفُ وَالْفَرَائِضُ ، وَتُسْتَمَدُّ مِنْهَا الْحُقُوقُ وَالْوَاجِبَاتُ . .
الْقَاعِدَةُ الَّتِي يَجِبُ أَنْ تَقُومَ أَوَّلًا قَبْلَ الدُّخُولِ فِي الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي ; وَقَبْلَ الدُّخُولِ فِي التَّكَالِيفِ وَالْفَرَائِضِ ، وَقَبْلَ الدُّخُولِ فِي النِّظَامِ وَالْأَوْضَاعِ ; وَقَبْلَ الدُّخُولِ فِي الشَّرَائِعِ وَالْأَحْكَامِ . . يَجِبُ ابْتِدَاءً أَنْ يَعْتَرِفَ النَّاسُ بِرُبُوبِيَّةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَهُمْ فِي حَيَاتِهِمْ كَمَا يَعْتَرِفُونَ بِأُلُوهِيَّتِهِ وَحْدَهُ فِي عَقِيدَتِهِمْ ; لَا يُشْرِكُونَ مَعَهُ أَحَدًا فِي أُلُوهِيَّتِهِ ، وَلَا يُشْرِكُونَ مَعَهُ أَحَدًا فِي رُبُوبِيَّتِهِ كَذَلِكَ . يَعْتَرِفُونَ لَهُ وَحْدَهُ بِأَنَّهُ الْمُتَصَرِّفُ فِي شُؤُونِ هَذَا الْكَوْنِ فِي عَالَمِ الْأَسْبَابِ وَالْأَقْدَارِ ; وَيَعْتَرِفُونَ لَهُ وَحْدَهُ بِأَنَّهُ الْمُتَصَرِّفُ فِي حِسَابِهِمْ وَجَزَائِهِمْ يَوْمَ الدِّينِ ; وَيَعْتَرِفُونَ لَهُ وَحْدَهُ بِأَنَّهُ هُوَ الْمُتَصَرِّفُ فِي شُؤُونِ الْعِبَادِ فِي عَالَمِ الْحُكْمِ وَالشَّرِيعَةِ كُلِّهَا سَوَاءً . .
إِنَّهَا تَنْقِيَةُ الضَّمِيرِ مِنْ أَوْشَابِ الشِّرْكِ ، وَتَنْقِيَةُ الْعَقْلِ مَنْ أَوْشَابِ الْخُرَافَةِ ، وَتَنْقِيَةُ الْمُجْتَمَعِ مِنْ
nindex.php?page=treesubj&link=30578تَقَالِيدِ الْجَاهِلِيَّةِ ، وَتَنْقِيَةُ الْحَيَاةِ مِنْ
nindex.php?page=treesubj&link=28676_28675_28673عُبُودِيَّةِ الْعِبَادِ لِلْعِبَادِ . .
إِنَّ الشِّرْكَ - فِي كُلِّ صُوَرِهِ - هُوَ الْمُحَرَّمُ الْأَوَّلُ لِأَنَّهُ يَجُرُّ إِلَى كُلِّ مُحَرَّمٍ . وَهُوَ الْمُنْكَرُ الْأَوَّلُ الَّذِي يَجِبُ حَشْدُ
[ ص: 1230 ] الْإِنْكَارِ كُلِّهِ لَهُ ; حَتَّى يَعْتَرِفَ النَّاسُ أَنْ لَا إِلَهَ لَهُمْ إِلَّا اللَّهُ ، وَلَا رَبَّ لَهُمْ إِلَّا اللَّهُ ، وَلَا حَاكِمَ لَهُمْ إِلَّا اللَّهُ ، وَلَا مُشَرِّعَ لَهُمْ إِلَّا اللَّهُ . كَمَا أَنَّهُمْ لَا يَتَوَجَّهُونَ بِالشَّعَائِرِ لِغَيْرِ اللَّهِ . .
وَإِنَّ التَّوْحِيدَ - عَلَى إِطْلَاقِهِ - لَهُوَ الْقَاعِدَةُ الْأُولَى الَّتِي لَا يُغْنِي غِنَاءَهَا شَيْءٌ آخَرُ ، مِنْ عِبَادَةٍ أَوْ خُلُقٍ أَوْ عَمَلٍ . . مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ تَبْدَأُ الْوَصَايَا كُلُّهَا بِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=151أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا . .
وَيَنْبَغِي أَنْ نَلْتَفِتَ إِلَى مَا قَبْلَ هَذِهِ الْوَصَايَا ، لِنَعْلَمَ مَاذَا يُرَادُ بِالشِّرْكِ الَّذِي يَنْهَى عَنْهُ فِي مُقَدِّمَةِ الْوَصَايَا - لَقَدْ كَانَ السِّيَاقُ كُلُّهُ بِصَدَدِ قَضِيَّةٍ مُعَيَّنَةٍ - قَضِيَّةَ التَّشْرِيعِ وَمُزَاوَلَةِ حَقِّ الْحَاكِمِيَّةِ فِي إِصْدَارِهِ - وَقَبْلَ آيَةٍ وَاحِدَةٍ كَانَ مَوْقِفُ الْإِشْهَادِ الَّذِي يَحْسُنُ أَنْ نُعِيدَ نَصَّهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=150قُلْ : هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا . فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ . وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ، وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ ، وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ . .
يَجِبُ أَنْ نَذْكُرَ هَذِهِ الْآيَةَ ، وَمَا قُلْنَاهُ عَنْهَا فِي الصَّفَحَاتِ السَّابِقَةِ لِنُدْرِكَ مَاذَا يَعْنِي السِّيَاقُ الْقُرْآنِيُّ هُنَا بِالشِّرْكِ الَّذِي يَنْهَى عَنْهُ ابْتِدَاءً . . إِنَّهُ
nindex.php?page=treesubj&link=28662_28666الشِّرْكُ فِي الِاعْتِقَادِ ، كَمَا أَنَّهُ
nindex.php?page=treesubj&link=28662_28666الشِّرْكُ فِي الْحَاكِمِيَّةِ . فَالسِّيَاقُ حَاضِرٌ ، وَالْمُنَاسَبَةُ فِيهِ حَاضِرَةٌ . .
وَنَحْنُ نَحْتَاجُ إِلَى هَذَا التَّذْكِيرِ الْمُسْتَمِرِّ ، لِأَنَّ جُهُودَ الشَّيَاطِينِ فِي زَحْزَحَةِ هَذَا الدِّينِ عَنْ مَفْهُومَاتِهِ الْأَسَاسِيَّةِ ، قَدْ آتَتْ ثِمَارَهَا - مَعَ الْأَسَفِ - فَجَعَلَتْ مَسْأَلَةَ الْحَاكِمِيَّةِ تَتَزَحْزَحُ عَنْ مَكَانِ الْعَقِيدَةِ ، وَتَنْفَصِلُ فِي الْحِسِّ عَنْ أَصْلِهَا الِاعْتِقَادِيِّ ! وَمِنْ ثَمَّ نَجِدُ حَتَّى الْغَيُورِينَ عَلَى الْإِسْلَامِ ، يَتَحَدَّثُونَ لِتَصْحِيحِ شَعِيرَةٍ تَعَبُّدِيَّةٍ ; أَوْ لِاسْتِنْكَارِ انْحِلَالٍ أَخْلَاقِيٍّ ; أَوْ لِمُخَالَفَةٍ مِنَ الْمُخَالَفَاتِ الْقَانُونِيَّةِ . وَلَكِنَّهُمْ لَا يَتَحَدَّثُونَ عَنْ أَصْلِ الْحَاكِمِيَّةِ ، وَمَوْقِعِهَا مِنَ الْعَقِيدَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ ! يَسْتَنْكِرُونَ الْمُنْكَرَاتِ الْجَانِبِيَّةَ الْفَرْعِيَّةَ ، وَلَا يَسْتَنْكِرُونَ الْمُنْكَرَ الْأَكْبَرَ ; وَهُوَ قِيَامُ الْحَيَاةِ فِي غَيْرِ التَّوْحِيدِ ; أَيْ عَلَى غَيْرِ إِفْرَادِ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ - بِالْحَاكِمِيَّةِ . .
إِنَّ اللَّهَ قَبْلَ أَنْ يُوصِيَ النَّاسَ أَيَّ وَصِيَّةٍ ، أَوْصَاهُمْ أَلَّا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا . فِي مَوْضِعٍ مِنَ السِّيَاقِ الْقُرْآنِيِّ يُحَدِّدُ الْمَعْنِيَّ بِالشِّرْكِ الَّذِي تَبْدَأُ بِالنَّهْيِ عَنْهُ جَمِيعُ الْوَصَايَا !
إِنَّهَا الْقَاعِدَةُ الَّتِي يَرْتَبِطُ عَلَى أَسَاسِهَا الْفَرْدُ بِاللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ ، وَتَرْتَبِطُ بِهَا الْجَمَاعَةُ بِالْمِعْيَارِ الثَّابِتِ الَّذِي تَرْجِعُ إِلَيْهِ فِي كَافَّةِ الرَّوَابِطِ ; وَبِالْقِيَمِ الْأَسَاسِيَّةِ الَّتِي تَحْكُمُ الْحَيَاةَ الْبَشَرِيَّةَ . . فَلَا تَظَلُّ نَهْبًا لِرِيحِ الشَّهَوَاتِ وَالنَّزَوَاتِ ، وَاصْطِلَاحَاتِ الْبَشَرِ الَّتِي تَتَرَاوَحُ مَعَ الشَّهَوَاتِ وَالنَّزَوَاتِ . .
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=151وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا . وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ . .
إِنَّهَا رَابِطَةُ الْأُسْرَةِ بِأَجْيَالِهَا الْمُتَلَاحِقَةِ - تَقُومُ بَعْدَ الرَّابِطَةِ فِي اللَّهِ وَوَحْدَةِ الِاتِّجَاهِ - وَلَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ - أَنَّهُ أَرْحَمُ بِالنَّاسِ مِنَ الْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ . فَأَوْصَى الْأَبْنَاءَ بِالْآبَاءِ ، وَأَوْصَى الْآبَاءَ بِالْأَبْنَاءِ ; وَرَبَطَ الْوَصِيَّةَ بِمَعْرِفَةِ أُلُوهِيَّتِهِ الْوَاحِدَةِ ، وَالِارْتِبَاطِ بِرُبُوبِيَّتِهِ الْمُتَفَرِّدَةِ . وَقَالَ لَهُمْ : إِنَّهُ هُوَ الَّذِي يَكْفُلُ لَهُمُ الرِّزْقَ ، فَلَا يَضِيقُوا بِالتَّبِعَاتِ تُجَاهَ الْوَالِدَيْنِ فِي كَبْرَتِهِمَا ; وَلَا تُجَاهَ الْأَوْلَادِ فِي ضَعْفِهِمْ ، وَلَا يَخَافُوا الْفَقْرَ وَالْحَاجَةَ فَاللَّهُ يَرْزُقُهُمْ جَمِيعًا . .
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=151وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ . .
وَلَمَّا وَصَّاهُمُ اللَّهُ بِالْأُسْرَةِ ، وَصَّاهُمْ بِالْقَاعِدَةِ الَّتِي تَقُومُ عَلَيْهَا - كَمَا يَقُومُ عَلَيْهَا الْمُجْتَمَعُ كُلُّهُ - وَهِيَ قَاعِدَةُ
[ ص: 1231 ] النَّظَافَةِ وَالطَّهَارَةِ وَالْعِفَّةِ . فَنَهَاهُمْ عَنِ
nindex.php?page=treesubj&link=33501الْفَوَاحِشِ ظَاهِرِهَا وَخَافِيهَا . . فَهُوَ نَهْيٌ مُرْتَبِطٌ تَمَامًا بِالْوَصِيَّةِ السَّابِقَةِ عَلَيْهَا . . وَبِالْوَصِيَّةِ الْأُولَى الَّتِي تَقُومُ عَلَيْهَا كَافَّةُ الْوَصَايَا .
إِنَّهُ لَا يُمْكِنُ قِيَامُ أُسْرَةٍ ، وَلَا اسْتِقَامَةُ مُجْتَمَعٍ ، فِي وَحَلِ الْفَوَاحِشِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ . . إِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ طَهَارَةٍ وَنَظَافَةٍ وَعِفَّةٍ لِتَقُومَ الْأُسْرَةُ وَلِيَقُومَ الْمُجْتَمَعُ . وَالَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تُشِيعَ الْفَاحِشَةُ هُمُ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَتَزَعْزَعَ قَوَائِمُ الْأُسْرَةِ وَأَنْ يَنْهَارَ الْمُجْتَمَعُ .
وَالْفَوَاحِشُ : كُلُّ مَا أَفْحَشَ - أَيْ تَجَاوَزَ الْحَدَّ - وَإِنْ كَانَتْ أَحْيَانًا تُخَصُّ بِنَوْعٍ مِنْهَا هُوَ
nindex.php?page=treesubj&link=10275فَاحِشَةُ الزِّنَا . وَيَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنْ يَكُونَ هَذَا هُوَ الْمَعْنَى الْمُرَادُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ . لِأَنَّ الْمَجَالَ مَجَالُ تَعْدِيدِ مُحَرَّمَاتٍ بِذَاتِهَا ، فَتَكُونُ هَذِهِ وَاحِدَةً مِنْهَا بِعَيْنِهَا . وَإِلَّا فَقَتْلُ النَّفْسِ فَاحِشَةٌ ، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ فَاحِشَةٌ ، وَالشِّرْكُ بِاللَّهِ فَاحِشَةُ الْفَوَاحِشِ . فَتَخْصِيصُ " الْفَوَاحِشِ " هُنَا بِفَوَاحِشِ الزِّنَا أَوْلَى بِطَبِيعَةِ السِّيَاقِ . وَصِيغَةُ الْجَمْعِ ، لِأَنَّ هَذِهِ الْجَرِيمَةَ ذَاتُ مُقَدِّمَاتٍ وَمُلَابَسَاتٍ كُلُّهَا فَاحِشَةٌ مِثْلُهَا . فَالتَّبَرُّجُ ، وَالتَّهَتُّكُ ، وَالِاخْتِلَاطُ الْمُثِيرُ ، وَالْكَلِمَاتُ وَالْإِشَارَاتُ وَالْحَرَكَاتُ وَالضِّحْكَاتُ الْفَاجِرَةُ ، وَالْإِغْرَاءُ وَالتَّزْيِينُ وَالِاسْتِثَارَةُ . . . كُلُّهَا فَوَاحِشُ تُحِيطُ بِالْفَاحِشَةِ الْأَخِيرَةِ . وَكُلُّهَا فَوَاحِشُ مِنْهَا الظَّاهِرُ وَمِنْهَا الْبَاطِنُ . مِنْهَا الْمُسْتَسِرُّ فِي الضَّمِيرِ وَمِنْهَا الْبَادِي فِي الْجَوَارِحِ . مِنْهَا الْمَخْبُوءُ الْمَسْتُورُ وَمِنْهَا الْمُعْلَنُ الْمَكْشُوفُ ! وَكُلُّهَا مِمَّا يُحَطِّمُ قِوَامَ الْأُسْرَةِ ، وَيَنْخُرُ فِي جِسْمِ الْجَمَاعَةِ ، فَوْقَ مَا يُلَطِّخُ ضَمَائِرَ الْأَفْرَادِ ، وَيُحَقِّرُ مِنِ اهْتِمَامَاتِهِمْ ، وَمِنْ ثَمَّ جَاءَتْ بَعْدَ الْحَدِيثِ عَنِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَوْلَادِ .
وَلِأَنَّ هَذِهِ
nindex.php?page=treesubj&link=33501الْفَوَاحِشَ ذَاتُ إِغْرَاءٍ وَجَاذِبِيَّةٍ ، كَانَ التَّعْبِيرُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=151وَلا تَقْرَبُوا . . لِلنَّهْيِ عَنْ مُجَرَّدِ الِاقْتِرَابِ ،
nindex.php?page=treesubj&link=20750_20484سَدًّا لِلذَّرَائِعِ ، وَاتِّقَاءً لِلْجَاذِبِيَّةِ الَّتِي تَضْعُفُ مَعَهَا الْإِرَادَةُ . . لِذَلِكَ
nindex.php?page=treesubj&link=18445حَرُمَتِ النَّظْرَةُ الثَّانِيَةُ - بَعْدَ الْأُولَى غَيْرِ الْمُتَعَمَّدَةِ - وَلِذَلِكَ كَانَ الِاخْتِلَاطُ ضَرُورَةً تُتَاحُ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ . وَلِذَلِكَ كَانَ التَّبَرُّجُ - حَتَّى بِالتَّعَطُّرِ فِي الطَّرِيقِ - حَرَامًا ، وَكَانَتِ الْحَرَكَاتُ الْمُثِيرَةُ ، وَالضِّحْكَاتُ الْمُثِيرَةُ ، وَالْإِشَارَاتُ الْمُثِيرَةُ ، مَمْنُوعَةً فِي الْحَيَاةِ الْإِسْلَامِيَّةِ النَّظِيفَةِ . . فَهَذَا الدِّينُ لَا يُرِيدُ أَنْ يُعَرِّضَ النَّاسَ لِلْفِتْنَةِ ثُمَّ يُكَلِّفَ أَعْصَابَهُمْ عَنَتًا فِي الْمُقَاوَمَةِ ! فَهُوَ دِينُ وِقَايَةٍ قَبْلَ أَنْ يُقِيمَ الْحُدُودَ ، وَيُوقِعَ الْعُقُوبَاتِ . وَهُوَ دِينُ حِمَايَةٍ لِلضَّمَائِرِ وَالْمَشَاعِرِ وَالْحَوَاسِّ وَالْجَوَارِحِ . وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ خَلَقَ ، وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ . .
وَكَذَلِكَ نَعْلَمُ مَا الَّذِي يُرِيدُهُ بِهَذَا الدَّيْنِ ، وَبِحَيَاةِ الْمُجْتَمَعِ كُلِّهِ وَبِحَيَاةِ الْأُسْرَةِ ، مَنْ يُزَيِّنُونَ لِلنَّاسِ الشَّهَوَاتِ ، وَمَنْ يُطْلِقُونَ الْغَرَائِزَ مِنْ عِقَالِهَا بِالْكَلِمَةِ وَالصُّورَةِ وَالْقِصَّةِ وَالْفِيلْمِ وَبِالْمُعَسْكَرِ الْمُخْتَلِطِ وَبِسَائِرِ أَدَوَاتِ التَّوْجِيهِ وَالْإِعْلَامِ !
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=151وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ . .
وَيَكْثُرُ فِي السِّيَاقِ الْقُرْآنِيِّ مَجِيءُ النَّهْيِ عَنْ هَذِهِ الْمُنْكَرَاتِ الثَّلَاثَةِ مُتَتَابِعَةً : الشِّرْكَ ، وَالزِّنَا ، وَقَتْلَ النَّفْسِ . . ذَلِكَ أَنَّهَا كُلَّهَا جَرَائِمُ قَتْلٍ فِي الْحَقِيقَةِ ! الْجَرِيمَةُ الْأُولَى جَرِيمَةُ قَتْلٍ لِلْفِطْرَةِ ; وَالثَّانِيَةُ جَرِيمَةُ قَتْلٍ لِلْجَمَاعَةِ ، وَالثَّالِثَةُ جَرِيمَةُ قَتْلٍ لِلنَّفْسِ الْمُفْرَدَةِ . . إِنَّ الْفِطْرَةَ الَّتِي لَا تَعِيشُ عَلَى التَّوْحِيدِ فِطْرَةٌ مَيِّتَةٌ . وَالْجَمَاعَةُ الَّتِي تَشِيعُ فِيهَا الْفَاحِشَةُ جَمَاعَةٌ مَيِّتَةٌ ، مُنْتَهِيَةٌ حَتْمًا إِلَى الدَّمَارِ . وَالْحَضَارَةُ الْإِغْرِيقِيَّةُ وَالْحَضَارَةُ الرُّومَانِيَّةُ وَالْحَضَارَةُ الْفَارِسِيَّةُ . شَوَاهِدُ مِنَ التَّارِيخِ . وَمُقَدِّمَاتُ الدَّمَارِ وَالِانْهِيَارِ فِي الْحَضَارَةِ الْغَرْبِيَّةِ تُنْبِئُ بِالْمَصِيرِ الْمُرْتَقَبِ لِأُمَمٍ يَنْخُرُ
[ ص: 1232 ] فِيهَا كُلُّ هَذَا الْفَسَادِ . وَالْمُجْتَمَعُ الَّذِي تَشِيعُ فِيهِ الْمَقَاتِلُ وَالثَّارَّاتُ ، مُجْتَمَعٌ مُهَدَّدٌ بِالدَّمَارِ . . وَمِنْ ثَمَّ يَجْعَلُ الْإِسْلَامُ عُقُوبَةَ هَذِهِ الْجَرَائِمِ هِيَ أَقْسَى الْعُقُوبَاتِ ، لِأَنَّهُ يُرِيدُ حِمَايَةَ مُجْتَمَعِهِ مِنْ عَوَامِلِ الدَّمَارِ .
وَلَقَدْ سَبَقَ النَّهْيُ عَنْ قَتْلِ الْأَوْلَادِ مِنْ إِمْلَاقٍ . فَالْآنَ يَنْهَى عَنْ قَتْلِ " النَّفْسِ " عَامَّةً . فَيُوحِيَ بِأَنَّ كُلَّ قَتْلٍ فَرْدِيٍّ إِنَّمَا يَقَعُ عَلَى جِنْسِ " النَّفْسِ " فِي عُمُومِهِ . تُؤَيِّدُ هَذَا الْفَهْمَ آيَةُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=32 . . . أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا ، بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ ، فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا ، وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا . . فَالِاعْتِدَاءُ إِنَّمَا يَقَعُ عَلَى حَقِّ الْحَيَاةِ ذَاتِهَا ، وَعَلَى النَّفْسِ الْبَشَرِيَّةِ فِي عُمُومِهَا . وَعَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ كَفَلَ اللَّهُ حُرْمَةَ النَّفْسِ ابْتِدَاءً . وَهُنَاكَ طُمَأْنِينَةُ الْجَمَاعَةِ الْمُسْلِمَةِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَأَمْنُهَا ، وَانْطِلَاقُ كُلِّ فَرْدٍ فِيهَا لِيَعْمَلَ وَيُنْتِجَ آمِنًا عَلَى حَيَاتِهِ ، لَا يُؤْذَى فِيهَا إِلَّا بِالْحَقِّ . وَالْحَقُّ الَّذِي تُؤْخَذُ بِهِ النَّفْسُ بَيَّنَهُ اللَّهُ فِي شَرِيعَتِهِ ، وَلَمْ يَتْرُكْهُ لِلتَّقْدِيرِ وَالتَّأْوِيلِ . وَلَكِنَّهُ لَمْ يُبَيِّنْهُ لِيُصْبِحَ شَرِيعَةً إِلَّا بَعْدَ أَنْ قَامَتِ الدَّوْلَةُ الْمُسْلِمَةُ ، وَأَصْبَحَ لَهَا مِنَ السُّلْطَانِ مَا يَكْفُلُ لَهَا تَنْفِيذَ الشَّرِيعَةِ !
وَهَذِهِ اللَّفْتَةُ لَهَا قِيمَتُهَا فِي تَعْرِيفِنَا بِطَبِيعَةِ مَنْهَجِ هَذَا الدِّينِ فِي النَّشْأَةِ وَالْحَرَكَةِ . فَحَتَّى هَذِهِ الْقَوَاعِدِ الْأَسَاسِيَّةِ فِي حَيَاةِ الْمُجْتَمَعِ ، لَمْ يَفْصِلْهَا الْقُرْآنُ إِلَّا فِي مُنَاسَبَتِهَا الْعَمَلِيَّةِ .
وَقَبْلَ أَنْ يَمْضِيَ السِّيَاقُ فِي بَيَانِ الْمُحَرَّمَاتِ وَالتَّكَالِيفِ ، يَفْصِلُ بَيْنَ هَذَا الْقِسْمِ وَالَّذِي يَلِيهِ بِإِبْرَازِ وَصِيَّةِ اللَّهِ وَأَمْرِهِ وَتَوْجِيهِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=151ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ .
وَهَذَا التَّعْقِيبُ يَجِيءُ وَفْقَ الْمَنْهَجِ الْقُرْآنِيِّ فِي رَبْطِ كُلِّ أَمْرٍ وَكُلِّ نَهْيٍ بِاللَّهِ . تَقْرِيرًا لِوَحْدَةِ السُّلْطَةِ الَّتِي تَأْمُرُ وَتَنْهَى فِي النَّاسِ ، وَرَبْطًا لِلْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي بِهَذِهِ السُّلْطَةِ الَّتِي تَجْعَلُ لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَزْنَهُ فِي ضَمَائِرِ النَّاسِ !
كَذَلِكَ تَجِيءُ فِيهِ الْإِشَارَةُ إِلَى التَّعَقُّلِ . فَالْعَقْلُ يَقْتَضِي أَنَّ تَكُونَ هَذِهِ السُّلْطَةُ وَحْدَهَا هِيَ الَّتِي تُعَبِّدُ النَّاسَ لِشَرْعِهَا . وَقَدْ سَبَقَ أَنَّهَا سُلْطَةُ الْخَالِقِ الرَّازِقِ الْمُتَصَرِّفِ فِي حَيَاةِ النَّاسِ !
وَهَذَا وَذَلِكَ فَوْقَ مَا فِي الطَّائِفَةِ الْأُولَى مِنَ التَّجَانُسِ . وَمَا بَيْنَ الطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ كَذَلِكَ مِنَ التَّجَانُسِ . فَجَعَلَ هَذِهِ فِي آيَةٍ ، وَتِلْكَ فِي آيَةٍ ، وَبَيْنَهُمَا هَذَا الْإِيقَاعُ .