nindex.php?page=treesubj&link=19860_29676_30531_30857_32204_34322_34370_8193_28973nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=194الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين ( 194
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=195وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين
* * *
بينت الآيات السابقة بعض أحكام القتال ، وفي هاتين الآيتين بيان لبعض آخر ، وقد تبين مما سبق أن
nindex.php?page=treesubj&link=33017_25014المشركين إن انتهكوا حرمة البيت الحرام ، وقاتلوا عند المسجد الحرام ، واعتدوا على المسلمين فيه ، فإنه لا يصح أن يحول بينهم وبين رد الاعتداء حرمة ذلك البيت الكريم ; لأن الله سبحانه وتعالى جعله حرما آمنا ، فمن اعتدى من المشركين بالقتال فيه فقد ازدوج اعتداؤه ، ابتدأ بالاعتداء ، واعتدى على أهل الحق ، واعتدى على حرمة البيت ، وكان من الواجب أن يرد كل هذا الاعتداء ، ليشفي الله قلوب قوم مؤمنين ، ولأن
nindex.php?page=treesubj&link=9127إلقاء السلم لمن حمل السيف تمكين للباطل من [ ص: 585 ] الحق يجعل المبطل يمتري الظلم ، فيكرر الاعتداء في البيت الحرام ، إذ يراه أنهز للفرصة ، وأنكى للمسلمين ، إد يقتلون ولا يقاتلون .
ومثل حرمة القتال في البيت الحرام
nindex.php?page=treesubj&link=8197_8193القتال في الشهر الحرام ; فإن الله سبحانه قد حرم القتال فيه ; ولكن إن اعتدى المشركون فقاتلوا فيه لا يلقي إليهم المسلمون السلم لينالوا منهم ; وهذا ما تعرضت له الآية الأولى من هاتين الآيتين :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=194الشهر الحرام بالشهر الحرام الباء هنا للمقابلة ، أي الشهر الحرام من جانبكم مقابل بالشهر الحرام من جانبهم ; فإن تقيدوا بالحرمة فيه ولم يثيروا حربا ولم يعتدوا ، التزمتم حرمته ، ولم تقاتلوهم فيه ، ولو كان قتالهم في ذاته عدلا ، بعد أن فتنوا الناس عن دينهم ; وإن انتهكوا حرمة الشهر الحرام ، ونابذوكم فيه وقاتلوكم فلا تكفوا عن قتالهم ، ولا تقبضوا أيديكم عنهم احتراما له ; بل ابسطوا عليهم أيديكم ، وخذوهم إلى الحق من نواصيهم ; لأنه إذا كان الشهر الحرام واجب الصيانة فنفوس المؤمنين ألزم صيانة وأحق بها ، وإذا تعارضت الحقوق والواجبات قدم ألزمها ، وأحفظها لدين الله وإعلاء كلمته ; ولا شك أن ترك المشركين يكلبون في المؤمنين ويشتدون عليهم ، أشد ضررا من القتال في الشهر الحرام الذي انتهكوا حرمته ، وقد أخرجوا من قلوبهم كل حريجة دينية وخلقية وإنسانية .
و " أل " في كلمة ( الشهر ) هي التي يسميها علماء اللغة أل الجنسية ، والشهر هنا مفرد في معنى الجمع ; لأن الشهر الحرام ليس واحدا ، بل هي أربعة أشهر : ذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، ورجب الذي بين جمادى وشعبان ، والتعبير بالمفرد وإرادة الجمع فيه إشارة إلى المعنى المشترك في هذه الأشهر الأربعة ، وهو تحريم القتال ابتداء فيها ، احتراما لها ، ولبث روح الأمن والطمأنينة بين الناس ; لأن المعنى الجامع لها جعلها وحدة قائمة بذاتها ، وكأنها معنى واحد تعددت صوره ; فالتعبير عن الجمع بلفظ هو في أصل ذاته للمفرد ، مشيرا إلى الوحدة المشتركة الجامعة بين الأفراد ، مبينا أن الحكم قد نيط بالمعنى الجامع بينها ، ولا يتصل بالصفات الشخصية المميزة لآحادها .
[ ص: 586 ] وقد ذكرت عدد
nindex.php?page=treesubj&link=32204الأشهر الحرم آية أخرى هي قوله تعالى في سورة التوبة :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=36إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم
فهذه الآية تصرح بأنها أربعة وليست واحدا ، ثم بينت السنة هذه الأشهر الأربعة من أشهر السنة كلها ; فقد روى
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري nindex.php?page=showalam&ids=17080ومسلم وغيرهما أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال في حجة الوداع : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=660187ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض ، السنة اثنا عشر شهرا ; منها أربعة حرم ، ثلاثة متواليات : ذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان " .
وقد اتفق العلماء على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يبدأ بقتال في الشهر الحرام ، فلم يبتدئ فيه بغزو ، ولكن إذا قوتل فيه لم يكن يمتنع عن القتال ; وكذلك إذا ابتدأ القتال قبل الشهر الحرام ، واستمر القتال إلى أن حل الشهر ، لم يكن ينقطع عن القتال حتى يأمن الرجعة ; فقد روي عن
nindex.php?page=showalam&ids=36جابر بن عبد الله أنه قال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=694901لم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغزو في الشهر الحرام إلا أن يغزى ، فإذا حضره أقام حتى ينسلخ " .
ولقد استعد النبي - صلى الله عليه وسلم - للقتال في الشهر الحرام مرتين ، إحداهما عام
الحديبية عندما ذهب معتمرا هو وصحبه ومنعوه من البيت الحرام ، حتى هم بقتالهم إن بدءوه بالقتال ، ولكنه صالحهم على الدخول من قابل ; والثانية عندما عاد إلى قضاء عمرته ; فلقد كان على استعداد لأن يقاتل المشركين إن قاتلوه على ألا يبدأهم ، وكان ذلك في ذي القعدة في العامين .
ولقد ابتدأ القتال في العام الثامن مع
هوازن وحنين في الأشهر الحلال ، ولكن استمر القتال حتى دخل ذو القعدة الشهر الحرام ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يحاصرهم ، وقد استمر
[ ص: 587 ] النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحصار أياما ثم قفل راجعا احتراما للشهر الحرام ; ولعل الأيام التي استمرها لينظم الرجوع ويأمن ظهره ، وحتى لا يأخذه في رجعته عدو الله وعدوه .
هذه حقائق مقررة ثابتة تبين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يحرم على نفسه ابتداء القتال في الشهر الحرام إلا أن يقاتل فيقاتل ، ولقد تقرر التحريم بالقرآن الكريم في أكثر من آية ، منها قوله تعالى في أول سورة المائدة ، وهي من آخر القرآن نزولا :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=2يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد
ولكن مع ذلك اختلف الفقهاء ، فقال بعضهم وهم الأكثرون : إن تحريم القتال في الشهر الحرام قد نسخ بقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=36إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين وقالوا إن معنى قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=36فلا تظلموا فيهن أنفسكم أي بمنع القتال فيها كما ذكر
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير الطبري وقالوا : لقد قاتل النبي - صلى الله عليه وسلم - هوازن وحنينا فيها ، وما لأحد أن يحرم ما أحله رسول الله . ذلك قولهم ودليله .
وقال بعض آخر أقل عددا من الأول : إن تحريم القتال فيها ابتداء من غير اعتداء من الأعداء فيها شريعة باقية ; لأنه لم يوجد نص صريح يعارض نصوص التحريم ، ولا يمكن إعماله إلا بالنسخ ، ولأن تحريم هذه الأشهر ثبت بآيات من آخر آيات القرآن نزولا وهي سورة المائدة كما نوهنا ، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أكد التحريم بذكر تلك الأشهر في خطبة الوداع التي سجل فيها شرع الله على عباد الله ، وأشهد عليهم فيها أنه بلغهم رسالات ربه ; وما كان قتال النبي - صلى الله عليه وسلم -
لهوازن وحنين في الشهر الحرام ابتداء بل كان امتدادا ، ولقد قطع القتال ولم يستمر فيه لما صارت الرجعة عن القتال لا تعرض جنده لمضار تكون أشد من تحريم القتال في الشهر الحرام .
ولأجل هذا قال
nindex.php?page=showalam&ids=16568عطاء بن رباح حالفا بالله : إنه ما يحل للناس أن يغزوا في الحرم ، ولا في الأشهر الحرم إلا أن يقاتلوا فيها ، وما نسخت .
[ ص: 588 ] ولعل الفقهاء الذين قرروا إباحة القتال في الأشهر الحرم ، قد استمدوا حكمهم مما ذكرنا متأثرين بأحوال زمنهم ، فإنه بعد أن اتسع الفتح الإسلامي صار جند المسلمين في مذأبة من الأمم المعادية تنتهز الفرص من غير هوادة أو مهادنة ، فإذا رأوا المسلمين قد أغمدوا القضب في أجفانها انقضوا عليهم ، وأتوهم من مأمنهم ، بل لعلهم وجدوا أن الفتوحات الإسلامية التي تمت في عهد
nindex.php?page=showalam&ids=1الصديق nindex.php?page=showalam&ids=2والفاروق ، وامتدت في عهد
nindex.php?page=showalam&ids=7ذي النورين ، لم تغمد فيها السيوف في الأشهر الحرم ، لأنها كانت حربا ممتدة مستمرة موصولة غير مقطوعة ، فحسبوا أن تحريم القتال في الشهر الحرام قد نسخ ; ولكنا إذا قيدنا التحريم بالابتداء وفي غير حال مباكرة الأعداء بالاعتداء ، نجد النصوص سائرة مع عمل النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة من غير تضارب يسيغ النسخ ، والله سبحانه أعلم بالصواب . ولماذا حرم الله سبحانه وتعالى القتال في الشهر الحرام ; يظهر لي أن السبب في ذلك أمران جليلان :
أحدهما : تأمين السبل في الحج ، ذهابا وجيئة ; ولذلك كان أكثرها أشهر الحج ، كما قال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=197الحج أشهر معلومات فمنع القتل فيها تأمينا للسبل ، ولأمن
بيت الله الحرام ، وأما رجب الذي بين جمادى وشعبان فقد كان شهر الاعتمار ، فيه تؤدى العمرة المندوبة انفرادا ، وعلى هذا يكون
nindex.php?page=treesubj&link=8193تحريم القتال في الشهر الحرام ليتحقق الأمن الكامل للبلد الحرام ولحرم الله الآمن إلى يوم القيامة ، كما قال سبحانه :
nindex.php?page=tafseer&surano=29&ayano=67أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم
ولعل الفقهاء الذين قالوا : إن تحريم القتال في الأشهر الحرم قد نسخ لاحظوا هذا المعنى ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن ينتقل إلى الرفيق الأعلى صارت الصحراء العربية بوبرها ومدرها كلها تحت سلطانه ، وفي ظل الله ، فصار الحجيج يصلون إلى
البيت الحرام آمنين ، ولو كان القتال دائر الرحى في غير البلاد العربية ، فظنوا النسخ ، لأن التحريم حينئذ يكون قد استوفى أغراضه والغاية منه ; واستنبطوا مع ذلك من نصوص وحوادث ما يزكي ذلك وينميه ، على نظر في ذلك .
وثاني الأمرين اللذين نظنهما حكمة التحريم : أن الإسلام يكره القتل والقتال ، وهو في نظره أمر بغيض لا يلجأ إليه إلا عند الاضطرار ، وإن النفوس السليمة تقر ذلك ، ولذلك قال سبحانه :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=216كتب عليكم القتال وهو كره [ ص: 589 ] لكم . . . فكان من حصر القتال في أضيق دائرة أن يتفق الفريقان على إلقاء السلاح أمدا معلوما في أثناء القتال لعل العقول تثوب إلى رشدها ، والنفوس تهدأ حدتها ، فيكون التفاهم والسلام وحقن الدماء . وإذا كان ثمة أشهر يحرم فيها ، ويرتضي الفريق الآخر ذلك التحريم حقنا للدماء فيها ، فإنها ستكون هدنة في أوار الحرب ، ولعلها تكون نسيم السلام ; ولقد لاحظ الناس بالتجارب المستمرة أنه ما كانت هدنة في حرب ضروس إلا فلت حدتها ، وأضعفت شرتها ; والله عليم بذات الصدور .
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=194والحرمات قصاص تعالت كلمات الله ; تلك حكمة بالغة ، وكلمة جامعة لكل ما سبقها من معان في القتال ومبينة لمقاصد الإسلام في علاقات المسلمين مع غيرهم ، وعلاقة بعضهم ببعض في اجتماعهم ، وهي قضية خلقية سليمة صحيحة تقبلها العقول السليمة ، وتقرها الأخلاق القويمة .
والحرمات : جمع حرمة ، كما أن الحجرات جمع حجرة ; والظلمات جمع ظلمة ، والحرمة الأمر الذي حرمه الله ومنع انتهاكه ، والقصاص من معانيه المساواة ، وتتبع آثار الجريمة بالعقوبة ، ومعنى القصاص في الحرمات أن يعامل منتهك الحرمات بمثل ما فعل ، وأن يكون العقاب من جنس العمل ، وألا يقيد المعاقب بحرمة انتهكها الجاني ، فإذا انتهك الجاني حرمة النفس بقتلها ، لا يتقيد المعاقب بحرمة نفسه ، بل يقتص منها ، لأنه إذا انتهك حرمة غيره بقتل أو اعتداء فقد أباح من حرماته مقابل ما انتهك . ومعنى قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=194والحرمات قصاص في هذا المقام أن ما انتهكوه من حرمة الأنفس بقتلها وفتنتها عن دينها ، وحرمة
البيت الحرام التي انتهكوها بإخراج أهله منه وصدهم عنه ، وقتالهم فيه ، وحرمة الشهر الحرام إذا انتهكوها ، كل هذا
[ ص: 590 ] يعامل بالقصاص والمساواة والعدل ; فما انتهكوه من حرمات في حق غيرهم . يقتص بمثله منهم ولا تحترم فيه حرمة لم يحترموا مثلها في غيرهم .
وذلك قانون شامل يعم ولا يخص ; ينظم العلاقات الدولية ، كما ينظم التعامل في المجتمع الإسلامي ; فمن اعتدى على غيره في ماله ، أو نفسه أو بعضه ، أباح الحاكم من نفسه وماله ما أباحه لنفسه من نفس غيره وماله ; والمعتدي على المسلمين من الدول يعامل بقدر اعتدائه ، وبطريقة اعتدائه ، وفي زمان اعتدائه ومكانه ; فإن انتهك حرمة الزمان فليس له أن يستمسك بحرمتها ، ومن انتهك حرمة المكان قتل فيه ،
nindex.php?page=treesubj&link=9234ومن اعتدى بنوع من الاعتداء عوقب بمثله إلا أن يكون أمرا لا يحله شرع الله ، ولا تحله الطبائع السليمة ; كالمثلة ، وقتل من لا يقاتل أبدا - على ما سنبين إن شاء الله تعالى .
وإن قضية
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=194والحرمات قصاص هي المعاملة العادلة التي تنظم الاجتماع الإنساني في دوله وآحاده ; وليس من الفضيلة في شيء أن تغل يد الفضائل عن حرمات خصمها في الوقت الذي استباح المبطل كل الحرمات ; وإن ذلك ليس له معنى إلا نصر الرذيلة على الفضيلة ، وخضد شوكة الحق ليأكله الباطل ; وإن التسامح في هذه الحال هو شر ذرائع الرذائل ، والقوة والقصاص في هذه الحال هو حماية الفضيلة وفل شوكة الرذيلة . . وهكذا فضائل الإسلام دائما فضائل لها شوكة وقوة ، ولا تعد التسامح الذي يمكن للباطل من أن يتغلب على الحق إلا الاستسلام والذلة .
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=194فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم هذا تخصيص بعد تعميم ، أو تفريع بعد ذكر القاعدة الكلية ، بذكر بعض القواعد الجزئية بالإضافة إليها ، أو الخاصة بالنسبة لها ; لأن قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=194والحرمات قصاص قضية عامة ، كما بينا ، تعم معاملة الدول ومعاملة الآحاد ، وتنظم الاجتماع الإنساني وتنظيم الاجتماع في الأمة الواحدة ; وهي قضية الفضيلة الإنسانية الموجبة التي تحمي نفسها من الرذيلة بالقصاص منها أيا كانت صورة الرذيلة ، وأيا كان موضوعها .
[ ص: 591 ] أما قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=194فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم فهي تبين العلاقة الدولية بين المسلمين وغيرهم ; لأن الخطاب فيها للمسلمين مجتمعين كدولة واحدة لها نظم حاكمة ، وسياسة قائمة ، يبين هذا الخطاب ما يجب على دولتهم في معاملة غيرهم به في حرب أو سلم ، وفي منازلة أو مهادنة ، فذكر الله سبحانه أن تلك المعاملة هي المعاملة بالمثل .
ومعنى قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=194فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم أن من يعتدي عليكم من أمم غيركم بانتهاك حرمة من حرمات دولتكم أو إلحاق أذى بجماعتكم ، بحرب يشنها عليكم ، أو مصادرة لمتاجركم ، أو ترصد في الطرق التي تسلكها قوافلكم أو سفنكم ، فعاملوه بالمثل ، وأنزلوا به مثل ما ينزله بكم ; وإن انتهك حرمة مكان فانتهكوا منه مثل ما انتهك من غير تحرج في ذلك ولا تأثم ، فإن هذا ما تقضي به قوانين المساواة والمعاملة بالمثل .
وهنا يثير العلماء بحثا لفظيا : كيف يسمى المقابلة بالمثل اعتداء ; إن الاعتداء هو الابتداء ، أما العقوبة أو المقاومة فهي عدل وانتصار ، لأن مقاومة الظلم هي عين العدل ، فكيف تسمى اعتداء ; وقد أجابوا عن ذلك بأن المشاكلة في الفعل التي تقتضيها المماثلة سوغت أن يسمى الفعل باسم نظيره ، كما قال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=40وجزاء سيئة سيئة مثلها وإن ذلك لا يمنع الحقيقة ، لأنه وإن تشاكلت الأفعال والأوصاف المنبعثة من الفاعل مختلفة ، فالفعل الأول اعتداء لأنه صدر عن ظالم ، وكان ظلما ، والثاني ليس في حقيقته اعتداء ، لأنه انبعث عن عادل ، وكان عدلا .
هذا مرمى ما قاله العلماء اعتراضا وإيرادا ، وجوابا وردا ; وعندي أن تسمية مقاومة الاعتداء بمثله اعتداء ، إذا كانت المقاومة حربا ونزالا ، فيه إشارة إلى معنى إنساني جليل ، وهو أن القتل في كل صوره وأحواله ، ولو كان ردا لمثله ، فيه اعتداء على النفس الإنسانية التي حرم الله قتلها بغير نفس أو فساد في الأرض ، وأنه عمل خطير تقشعر من هوله الأبدان ، ولا يصح الإقدام عليه إلا إذا اضطرت الفضيلة والأخلاق إليه ; وإن الإقدام عليه يكون كالإقدام على الضرورات المحظورة في
[ ص: 592 ] ذاتها ، يقدر بقدرها . فلا يسرف القاتل في القتل ; لأنه في أصله محظور ممنوع كأكل الميتة لا يباح إلا للضرورة ،
nindex.php?page=treesubj&link=9208ولا يصح للمقاتل باسم الإسلام أن يسرف في القتل ما أمكنه الانتصار بدونه ; ولعل هذا المعنى الجليل هو الذي جعل
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر الفاروق الذي كان ينظر بنور الله يكره قتال
nindex.php?page=showalam&ids=22خالد بن الوليد ، ويقول : " إن في سيفه لرهقا " ويعجب بقتال
nindex.php?page=showalam&ids=59عمرو بن العاص الذي فتح
مصر بأقل ما يتصور من الدماء ، ويقول " إن حربه رفيقة " .
وقوله سبحانه
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=194فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم هو القاعدة العامة للقانون الدولي في الإسلام في السلم والحرب معا ; فمن لم يعتد على المسلمين ، وترك دعوة الإسلام الحق تسير في مسارها ، وتستقيم على منهاجها من غير محاجزة بين الناس وبينها ، فالعلاقة به سلمية خالصة ، كالشأن مع
nindex.php?page=showalam&ids=888النجاشي ملك
الحبشة ; ومن اعتدى على المسلمين كانت العلاقة بينهم وبينه بقدر ذلك الاعتداء ; سواء أكان الاعتداء في سلم أم لبس لبوس الحرب ; وإذا عاهدهم أحد حفظوا عهودهم إلا أن ينكث معهم
nindex.php?page=tafseer&surano=48&ayano=10فمن نكث فإنما ينكث على نفسه
ولكن الخصم إذا لم يكن له خلق قد يقع في أمور تضر بالخلق القويم ، كأن ينتهك الأعراض في الحرب ، أو يقتل الذرية الضعاف ، أو الشيوخ الذين لا حول لهم ولا طول ، فهل يعتدى بمثل اعتدائه ، ويسلك المسلمون مثل مسلكه ; هذا ما بينته الجملة الآتية ، وهو عدم الجواز .
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=194واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين ذيل الله سبحانه وتعالى الآية الكريمة بهاتين الجملتين لكيلا يندفع المقاتلون المسلمون في القتال فيضعوا سيوفهم على أعناق من يستحقها ومن لا يستحقها . . وينزلوها في موضع البرء والسقم ، فيقتلوا ويتجاوزوا الحد ; لأنه إذا اشتجرت السيوف ، وكثرت الحتوف ; قد تتجاوز موضعها ،
[ ص: 593 ] فتكون في غير العدل ; وقد يسايرون خصومهم في أذاهم فيقتلون الذراري أو الشيوخ أو الضعاف أو الرهبان والعباد في الصوامع كما يفعل خصومهم ، أو يحرقون الزرع ويقتلون الضرع كما يعيث غيرهم في الأرض فسادا ; فأمر الله سبحانه بتقوى الله في الحرب بأن يراقبوه وحده ، ويخافوه وحده ، ويلاحظوا التقوى في قتالهم ; فإنه ينبغي أن تكون هي الوصف الملازم لهم في حربهم وسلمهم ; فإن حولتهم الحرب إلى أسود كواسر ، فليعلموا أن القلوب الإنسانية الدينية التي تخشى الله ما زالت في إهابها ، أو يجب أن تكون كذلك دائما .
ولقد
nindex.php?page=treesubj&link=8265نهى الإسلام عن قتل العسفاء وهم العمال الذين لا يشتغلون بحرب ، والذرية ; كما نهى عن قتل الرهبان الملازمين لمعابدهم ، ولقد قال
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب : اتقوا الله في الذرية والفلاحين الذين لا ينصبون لكم الحرب . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=1أبو بكر في الرهبان لقائد الجيش : وستجد أقواما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم لله ، فذروهم وما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم له . ولقد خشي النبي - صلى الله عليه وسلم -
nindex.php?page=showalam&ids=22خالد بن الوليد أن يقتل الذرية والضعاف فقال لبعض أصحابه : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=679345الحق nindex.php?page=showalam&ids=22بخالد بن الوليد فلا يقتلن ذرية ولا عسيفا .
ولكن قد يقول قائل إن أعداء الإسلام إن قتلوا الذرية والضعاف والشيوخ الذين لا يعينون في حرب فإن العدل معاملتهم بالمثل ، وإن ذلك يكون أنكى بهم ، والنكاية الشديدة قد تدفعهم إلى الخذلان ، أو على الأقل تمنعهم من قتل من لا يقاتلون ; ونقول إن الإسلام أمر بقتل من يقاتل فقط ،
nindex.php?page=tafseer&surano=35&ayano=18ولا تزر وازرة وزر أخرى وما كان الضعفاء ليقاتلوا ، فما يسوغ في حكم أقوى أن يقتلوا ; وإن
nindex.php?page=treesubj&link=19862تقوى الله في الحروب تقوي القلوب ، والرأفة بعباد الله تدني نصر الله ; ولذلك قال سبحانه في ختام الآية :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=194واعلموا أن الله مع المتقين فاستشعروا التقوى في حربكم ، وادرعوا بها في قتالكم ، فلا تعتدوا في القتال ، ولا تقاتلوا من لم يرفع سيفا ، فإن الله مع المتقين بالنصر والتأييد دائما ; والله ولي الصابرين .
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=195وأنفقوا في سبيل الله بين سبحانه مشروعية القتال عند الاعتداء ، ورد الاعتداء بمثله قدرا وزمانا ومكانا مع ملاحظة الدين وعدم الاسترسال في أمر يخالفه
[ ص: 594 ] إن وقع من المشركين ، أو المحاربين بشكل عام مثله ; ولقد أخذ بعد ذلك يبين ما هو عدة الحرب ، وقوة الجماعة الإسلامية ، ورباط بنيانها ، وهو المال ، فأمر الأغنياء بإنفاق المال في سبيل الله أي في كل ما هو خير وبر ، فإن كل خير وطاعة يعد سبيل الله سبحانه ، وإنفاق المال على ذلك هو قوة الأمة في سلمها ، وقوة السلم هي عدة الحرب ; وإن
nindex.php?page=treesubj&link=23468_27390من الإنفاق في سبيل الله الإنفاق في الحروب ، وإعداد العتاد الحربي ، ولكن ذلك وإن كان قوة الحرب المباشرة ، لا ينفي أن قوة الحروب تعتمد على قوة الوحدة في الأمة ، وقوة الصلة بين ضعفائها وأقويائها ، وأغنيائها وفقرائها ، وذلك يكون بسد حاجة المعوزين ، وإعطاء المحرومين ، ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم - "
nindex.php?page=hadith&LINKID=663994أبغوني في ضعفائكم فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم " .
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=195ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة التهلكة بضم اللام : مصدر بمعنى الهلاك ، كما قال
nindex.php?page=showalam&ids=12078أبو عبيدة nindex.php?page=showalam&ids=14416والزجاج ، وادعى بعض علماء اللغة أنه لم يوجد مصدر على وزن " تفعلة " إلا هذا ، ولكن روي عن
nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه كلمتان أخريان هما تنصرة وتسترة ، بمعنى نصر وستر . وقد جوز
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري أن يكون أصلها " تهلكة " قلبت الكسرة ضمة ، ككسرة الجوار قد تقلب ضمة فيقال : " الجوار " ، ومهما يكن فإن " التهلكة " إذا كانت بمعنى " الهلاك " في المال ، فلا بد أن يكون ثمة فرق دقيق اقتضى العدول من لفظ الهلاك إلى لفظ التهلكة كما هو الشأن في التخير من الألفاظ المترادفة في الكلام البليغ ، ولو أن لنا أن نتلمس فرقا فهو أن نقول : إن التهلكة هلاك خاص ، وهو الذي يباشر سببه من ينزل به الهلاك ، وربما لا ينزل دفعة واحدة ، بل يسري شيئا فشيئا ، ولكن نتيجته تكون مؤكدة ، أما لفظ الهلاك فهو يشمل ما ينزل دفعة واحدة وما لا يكون للإنسان فيه إرادة وغيرهما .
والباء في قوله سبحانه
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=195ولا تلقوا بأيديكم قيل زائدة في الإعراب لتقوية معنى الإلقاء المنهي عنه ، فيقوى النهي ; وقيل المعنى : لا تلقوا أنفسكم مجذوبة
[ ص: 595 ] بأيديكم وإرادتكم إلى التهلكة . فلا تكون زائدة . وعلى أن الباء زائدة في الإعراب يكون المراد بالأيدي الأنفس ، من قبيل إطلاق اسم الجزء وإرادة الكل ، والمعنى : لا تلقوا أنفسكم إلى التهلكة . والمؤدى في التخريجين واحد .
والنهي عن الإلقاء في التهلكة بعد الأمر بالإنفاق وبعد شئون القتال ، يعين المعنى بأنه فيما يتعلق بشئون الدفاع عن الدولة والذود عن حياضها ، وحفظ كيانها ، أو على الأقل يتجه نحو هذه الغاية أو ذلك المرمى أولا وبالذات ; ولذلك فسر الأكثرون الإلقاء إلى التهلكة بأنه الكف عن القتال والتقاعد عنه فتكون الأمة نهبا للمغيرين بسبب ذلك ، والكف عن الاستعداد للحرب بإعداد العدة وأخذ الأهبة كما قال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=60وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وبقبض الأغنياء أيديهم عن إعطاء حق الفقراء ; فيكون بأس الأمة بينها شديدا ، يسهل إغارة المغيرين عليها ; ولذلك روى
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس في تفسير هذه الآية وهو ترجمان القرآن ما نصه : لا تمسكوا عن الصدقة فتهلكوا .
هذا هو معنى الآية على ما عليه الأكثرون وهو الذي يتفق مع السياق ، ومع المروي في جملته ; فقد روى
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري في سبب نزول هذه الآية أنها نزلت في النفقة ، وروى
nindex.php?page=showalam&ids=17346يزيد بن أبي حبيب nindex.php?page=hadith&LINKID=674074عن أسلم قال : " غزونا القسطنطينية وعلى الجماعة عبد الرحمن بن الوليد والروم ملصقو ظهورهم بحائط المدينة ، فحمل رجل على العدو فقال الناس : مه مه ! لا إله إلا الله : يلقي بيديه إلى التهلكة ! فقال nindex.php?page=showalam&ids=50أبو أيوب الأنصاري : " سبحان الله أنزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار لما نصر الله نبيه ، وأظهر دينه قلنا هلم نقيم في أموالنا ، فأنزل الله عز وجل :
nindex.php?page=treesubj&link=19860_29676_30531_30857_32204_34322_34370_8193_28973nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=194الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ( 194
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=195وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ
* * *
بَيَّنَتِ الْآيَاتُ السَّابِقَةُ بَعْضَ أَحْكَامِ الْقِتَالِ ، وَفِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ بَيَانٌ لِبَعْضٍ آخَرَ ، وَقَدْ تَبَيَّنَ مِمَّا سَبَقَ أَنِ
nindex.php?page=treesubj&link=33017_25014الْمُشْرِكِينَ إِنِ انْتَهَكُوا حُرْمَةَ الْبَيْتِ الْحَرَامِ ، وَقَاتَلُوا عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، وَاعْتَدَوْا عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِيهِ ، فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَحُولَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَدِّ الِاعْتِدَاءِ حُرْمَةُ ذَلِكَ الْبَيْتِ الْكَرِيمِ ; لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جَعَلَهُ حَرَمًا آمِنًا ، فَمَنِ اعْتَدَى مِنَ الْمُشْرِكِينَ بِالْقِتَالِ فِيهِ فَقَدِ ازْدَوَجَ اعْتِدَاؤُهُ ، ابْتَدَأَ بِالِاعْتِدَاءِ ، وَاعْتَدَى عَلَى أَهْلِ الْحَقِّ ، وَاعْتَدَى عَلَى حُرْمَةِ الْبَيْتِ ، وَكَانَ مِنَ الْوَاجِبِ أَنْ يُرَدَّ كُلُّ هَذَا الِاعْتِدَاءِ ، لِيَشْفِيَ اللَّهُ قُلُوبَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ ، وَلِأَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=9127إِلْقَاءَ السِّلْمِ لِمَنْ حَمَلَ السَّيْفَ تَمْكِينٌ لِلْبَاطِلِ مِنْ [ ص: 585 ] الْحَقِّ يَجْعَلُ الْمُبْطِلَ يَمْتَرِي الظُّلْمَ ، فَيُكَرِّرُ الِاعْتِدَاءَ فِي الْبَيْتِ الْحَرَامِ ، إِذْ يَرَاهُ أَنْهَزَ لِلْفُرْصَةِ ، وَأَنْكَى لِلْمُسْلِمِينَ ، إِدْ يُقْتَلُونَ وَلَا يُقَاتِلُونَ .
وَمِثْلُ حُرْمَةِ الْقِتَالِ فِي الْبَيْتِ الْحَرَامِ
nindex.php?page=treesubj&link=8197_8193الْقِتَالُ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ ; فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ حَرَّمَ الْقِتَالَ فِيهِ ; وَلَكِنْ إِنِ اعْتَدَى الْمُشْرِكُونَ فَقَاتَلُوا فِيهِ لَا يُلْقِي إِلَيْهِمُ الْمُسْلِمُونَ السَّلَمَ لِيَنَالُوا مِنْهُمْ ; وَهَذَا مَا تَعَرَّضَتْ لَهُ الْآيَةُ الْأُولَى مِنْ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=194الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ الْبَاءُ هُنَا لِلْمُقَابَلَةِ ، أَيِ الشَّهْرُ الْحَرَامُ مِنْ جَانِبِكُمْ مُقَابَلٌ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ مِنْ جَانِبِهِمْ ; فَإِنْ تَقَيَّدُوا بِالْحُرْمَةِ فِيهِ وَلَمْ يُثِيرُوا حَرْبًا وَلَمْ يَعْتَدُوا ، الْتَزَمْتُمْ حُرْمَتَهُ ، وَلَمْ تُقَاتِلُوهُمْ فِيهِ ، وَلَوْ كَانَ قِتَالُهُمْ فِي ذَاتِهِ عَدْلًا ، بَعْدَ أَنْ فَتَنُوا النَّاسَ عَنْ دِينِهِمْ ; وَإِنِ انْتَهَكُوا حُرْمَةَ الشَّهْرِ الْحَرَامِ ، وَنَابَذُوكُمْ فِيهِ وَقَاتَلُوكُمْ فَلَا تَكُفُّوا عَنْ قِتَالِهِمْ ، وَلَا تَقْبِضُوا أَيْدِيَكُمْ عَنْهُمُ احْتِرَامًا لَهُ ; بَلِ ابْسُطُوا عَلَيْهِمْ أَيْدِيَكُمْ ، وَخُذُوهُمْ إِلَى الْحَقِّ مِنْ نَوَاصِيهِمْ ; لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الشَّهْرُ الْحَرَامُ وَاجِبَ الصِّيَانَةِ فَنُفُوسُ الْمُؤْمِنِينَ أَلْزَمُ صِيَانَةً وَأَحَقُّ بِهَا ، وَإِذَا تَعَارَضَتِ الْحُقُوقُ وَالْوَاجِبَاتُ قُدِّمَ أَلْزَمُهَا ، وَأَحْفَظُهَا لِدِينِ اللَّهِ وَإِعْلَاءُ كَلِمَتِهِ ; وَلَا شَكَّ أَنَّ تَرْكَ الْمُشْرِكِينَ يَكْلَبُونَ فِي الْمُؤْمِنِينَ وَيَشْتَدُّونَ عَلَيْهِمْ ، أَشَدُّ ضَرَرًا مِنَ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ الَّذِي انْتَهَكُوا حُرْمَتَهُ ، وَقَدْ أَخْرَجُوا مِنْ قُلُوبِهِمْ كُلَّ حَرِيجَةٍ دِينِيَّةٍ وَخُلُقِيَّةٍ وَإِنْسَانِيَّةٍ .
وَ " أَلْ " فِي كَلِمَةِ ( الشَّهْرُ ) هِيَ الَّتِي يُسَمِّيهَا عُلَمَاءُ اللُّغَةِ أَلِ الْجِنْسِيَّةَ ، وَالشَّهْرُ هُنَا مُفْرَدٌ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ ; لِأَنَّ الشَّهْرَ الْحَرَامَ لَيْسَ وَاحِدًا ، بَلْ هِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ : ذُو الْقِعْدَةِ ، وَذُو الْحِجَّةِ ، وَالْمُحَرَّمُ ، وَرَجَبٌ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ ، وَالتَّعْبِيرُ بِالْمُفْرَدِ وَإِرَادَةُ الْجَمْعِ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَعْنَى الْمُشْتَرَكِ فِي هَذِهِ الْأَشْهُرِ الْأَرْبَعَةِ ، وَهُوَ تَحْرِيمُ الْقِتَالِ ابْتِدَاءً فِيهَا ، احْتِرَامًا لَهَا ، وَلِبَثِّ رُوحِ الْأَمْنِ وَالطُّمَأْنِينَةِ بَيْنَ النَّاسِ ; لِأَنَّ الْمَعْنَى الْجَامِعَ لَهَا جَعَلَهَا وَحْدَةً قَائِمَةً بِذَاتِهَا ، وَكَأَنَّهَا مَعْنَى وَاحِدٌ تَعَدَّدَتْ صُوَرُهُ ; فَالتَّعْبِيرُ عَنِ الْجَمْعِ بِلَفْظٍ هُوَ فِي أَصْلِ ذَاتِهِ لِلْمُفْرَدِ ، مُشِيرًا إِلَى الْوَحْدَةِ الْمُشْتَرَكَةِ الْجَامِعَةِ بَيْنَ الْأَفْرَادِ ، مُبَيِّنًا أَنَّ الْحُكْمَ قَدْ نِيطَ بِالْمَعْنَى الْجَامِعِ بَيْنَهَا ، وَلَا يَتَّصِلُ بِالصِّفَاتِ الشَّخْصِيَّةِ الْمُمَيِّزَةِ لِآحَادِهَا .
[ ص: 586 ] وَقَدْ ذَكَرَتْ عَدَدَ
nindex.php?page=treesubj&link=32204الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ آيَةٌ أُخْرَى هِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=36إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ
فَهَذِهِ الْآيَةُ تُصَرِّحُ بِأَنَّهَا أَرْبَعَةٌ وَلَيْسَتْ وَاحِدًا ، ثُمَّ بَيَّنَتِ السُّنَّةُ هَذِهِ الْأَشْهَرَ الْأَرْبَعَةَ مِنْ أَشْهُرِ السَّنَةِ كُلِّهَا ; فَقَدْ رَوَى
nindex.php?page=showalam&ids=12070الْبُخَارِيُّ nindex.php?page=showalam&ids=17080وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا أَنَّ الرَّسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=660187أَلَا إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا ; مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ، ثَلَاثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ : ذُو الْقِعْدَةِ ، وَذُو الْحِجَّةِ ، وَالْمُحَرَّمُ ، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ " .
وَقَدِ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَبْدَأْ بِقِتَالٍ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ ، فَلَمْ يَبْتَدِئْ فِيهِ بِغَزْوٍ ، وَلَكِنْ إِذَا قُوتِلَ فِيهِ لَمْ يَكُنْ يَمْتَنِعُ عَنِ الْقِتَالِ ; وَكَذَلِكَ إِذَا ابْتَدَأَ الْقِتَالَ قَبْلَ الشَّهْرِ الْحَرَامِ ، وَاسْتَمَرَّ الْقِتَالُ إِلَى أَنْ حَلَّ الشَّهْرُ ، لَمْ يَكُنْ يَنْقَطِعُ عَنِ الْقِتَالِ حَتَّى يَأْمَنَ الرَّجْعَةَ ; فَقَدْ رُوِيَ عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=36جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=694901لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَغْزُو فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ إِلَّا أَنْ يُغْزَى ، فَإِذَا حَضَرَهُ أَقَامَ حَتَّى يَنْسَلِخَ " .
وَلَقَدِ اسْتَعَدَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ مَرَّتَيْنِ ، إِحْدَاهُمَا عَامَ
الْحُدَيْبِيَةِ عِنْدَمَا ذَهَبَ مُعْتَمِرًا هُوَ وَصَحْبُهُ وَمَنَعُوهُ مِنَ الْبَيْتِ الْحَرَامِ ، حَتَّى هَمَّ بِقِتَالِهِمْ إِنْ بَدَءُوهُ بِالْقِتَالِ ، وَلَكِنَّهُ صَالَحَهُمْ عَلَى الدُّخُولِ مِنْ قَابِلٍ ; وَالثَّانِيَةُ عِنْدَمَا عَادَ إِلَى قَضَاءِ عُمْرَتِهِ ; فَلَقَدْ كَانَ عَلَى اسْتِعْدَادٍ لِأَنْ يُقَاتِلَ الْمُشْرِكِينَ إِنْ قَاتَلُوهُ عَلَى أَلَّا يَبْدَأَهُمْ ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي ذِي الْقِعْدَةِ فِي الْعَامَيْنِ .
وَلَقَدِ ابْتَدَأَ الْقِتَالَ فِي الْعَامِ الثَّامِنِ مَعَ
هَوَازِنَ وَحُنَيْنٍ فِي الْأَشْهُرِ الْحَلَالِ ، وَلَكِنِ اسْتَمَرَّ الْقِتَالُ حَتَّى دَخَلَ ذُو الْقِعْدَةِ الشَّهْرُ الْحَرَامُ ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُحَاصِرُهُمْ ، وَقَدِ اسْتَمَرَّ
[ ص: 587 ] النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحِصَارِ أَيَّامًا ثُمَّ قَفَلَ رَاجِعًا احْتِرَامًا لِلشَّهْرِ الْحَرَامِ ; وَلَعَلَّ الْأَيَّامَ الَّتِي اسْتَمَرَّهَا لِيُنَظِّمَ الرُّجُوعَ وَيَأْمَنَ ظَهْرَهُ ، وَحَتَّى لَا يَأْخُذَهُ فِي رَجْعَتِهِ عَدُوُّ اللَّهِ وَعَدُوُّهُ .
هَذِهِ حَقَائِقُ مُقَرَّرَةٌ ثَابِتَةٌ تُبَيِّنُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُحَرِّمُ عَلَى نَفْسِهِ ابْتِدَاءَ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ إِلَّا أَنْ يُقَاتَلَ فَيُقَاتِلُ ، وَلَقَدْ تَقَرَّرَ التَّحْرِيمُ بِالْقُرْآنِ الْكَرِيمِ فِي أَكْثَرِ مِنْ آيَةٍ ، مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْمَائِدَةِ ، وَهِيَ مِنْ آخِرِ الْقُرْآنِ نُزُولًا :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=2يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ
وَلَكِنْ مَعَ ذَلِكَ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ وَهُمُ الْأَكْثَرُونَ : إِنَّ تَحْرِيمَ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ قَدْ نُسِخَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=36إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ وَقَالُوا إِنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=36فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ أَيْ بِمَنْعِ الْقِتَالِ فِيهَا كَمَا ذَكَرَ
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ وَقَالُوا : لَقَدْ قَاتَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَوَازِنَ وَحُنَيْنًا فِيهَا ، وَمَا لِأَحَدٍ أَنْ يُحَرِّمَ مَا أَحَلَّهُ رَسُولُ اللَّهِ . ذَلِكَ قَوْلُهُمْ وَدَلِيلُهُ .
وَقَالَ بَعْضٌ آخَرُ أَقَلُّ عَدَدًا مِنَ الْأَوَّلِ : إِنَّ تَحْرِيمَ الْقِتَالِ فِيهَا ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ اعْتِدَاءٍ مِنَ الْأَعْدَاءِ فِيهَا شَرِيعَةٌ بَاقِيَةٌ ; لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ نَصٌّ صَرِيحٌ يُعَارِضُ نُصُوصَ التَّحْرِيمِ ، وَلَا يُمْكِنُ إِعْمَالُهُ إِلَّا بِالنَّسْخِ ، وَلِأَنَّ تَحْرِيمَ هَذِهِ الْأَشْهُرِ ثَبَتَ بِآيَاتٍ مِنْ آخِرِ آيَاتِ الْقُرْآنِ نُزُولًا وَهِيَ سُورَةُ الْمَائِدَةِ كَمَا نَوَّهْنَا ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَكَّدَ التَّحْرِيمَ بِذِكْرِ تِلْكَ الْأَشْهُرِ فِي خُطْبَةِ الْوَدَاعِ الَّتِي سَجَّلَ فِيهَا شَرْعَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِ اللَّهِ ، وَأَشْهَدَ عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّهُ بَلَّغَهُمْ رِسَالَاتِ رَبِّهِ ; وَمَا كَانَ قِتَالُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
لِهَوَازِنَ وَحُنَيْنٍ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ ابْتِدَاءً بَلْ كَانَ امْتِدَادًا ، وَلَقَدْ قَطَعَ الْقِتَالَ وَلَمْ يَسْتَمِرَّ فِيهِ لَمَّا صَارَتِ الرَّجْعَةُ عَنِ الْقِتَالِ لَا تُعَرِّضُ جُنْدَهُ لِمَضَارَّ تَكُونُ أَشَدَّ مِنْ تَحْرِيمِ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ .
وَلِأَجْلِ هَذَا قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=16568عَطَاءُ بْنُ رَبَاحٍ حَالِفًا بِاللَّهِ : إِنَّهُ مَا يَحِلُّ لِلنَّاسِ أَنْ يَغْزُوا فِي الْحَرَمِ ، وَلَا فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ إِلَّا أَنْ يُقَاتَلُوا فِيهَا ، وَمَا نُسِخَتْ .
[ ص: 588 ] وَلَعَلَّ الْفُقَهَاءَ الَّذِينَ قَرَّرُوا إِبَاحَةَ الْقِتَالِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ ، قَدِ اسْتَمَدُّوا حُكْمَهُمْ مِمَّا ذَكَرْنَا مُتَأَثِّرِينَ بِأَحْوَالِ زَمَنِهِمْ ، فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنِ اتَّسَعَ الْفَتْحُ الْإِسْلَامِيُّ صَارَ جُنْدُ الْمُسْلِمِينَ فِي مَذْأَبَةٍ مِنَ الْأُمَمِ الْمُعَادِيَةِ تَنْتَهِزُ الْفُرَصَ مِنْ غَيْرِ هَوَادَةٍ أَوْ مُهَادَنَةٍ ، فَإِذَا رَأَوُا الْمُسْلِمِينَ قَدْ أَغْمَدُوا الْقُضُبَ فِي أَجْفَانِهَا انْقَضُّوا عَلَيْهِمْ ، وَأَتَوْهُمْ مِنْ مَأْمَنِهِمْ ، بَلْ لَعَلَّهُمْ وَجَدُوا أَنَّ الْفُتُوحَاتِ الْإِسْلَامِيَّةَ الَّتِي تَمَّتْ فِي عَهْدِ
nindex.php?page=showalam&ids=1الصِّدِّيقِ nindex.php?page=showalam&ids=2وَالْفَارُوقِ ، وَامْتَدَّتْ فِي عَهْدِ
nindex.php?page=showalam&ids=7ذِي النُّورَيْنِ ، لَمْ تُغْمَدْ فِيهَا السُّيُوفُ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ ، لِأَنَّهَا كَانَتْ حَرْبًا مُمْتَدَّةً مُسْتَمِرَّةً مَوْصُولَةً غَيْرَ مَقْطُوعَةٍ ، فَحَسِبُوا أَنَّ تَحْرِيمَ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ قَدْ نُسِخَ ; وَلَكِنَّا إِذَا قَيَّدْنَا التَّحْرِيمَ بِالِابْتِدَاءِ وَفِي غَيْرِ حَالِ مُبَاكَرَةِ الْأَعْدَاءِ بِالِاعْتِدَاءِ ، نَجِدُ النُّصُوصَ سَائِرَةً مَعَ عَمَلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالصَّحَابَةِ مِنْ غَيْرِ تَضَارُبٍ يُسِيغُ النَّسْخَ ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ . وَلِمَاذَا حَرَّمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْقِتَالَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ ; يَظْهَرُ لِي أَنَّ السَّبَبَ فِي ذَلِكَ أَمْرَانِ جَلِيلَانِ :
أَحَدُهُمَا : تَأْمِينُ السُّبُلِ فِي الْحَجِّ ، ذَهَابًا وَجِيئَةً ; وَلِذَلِكَ كَانَ أَكْثَرُهَا أَشْهُرَ الْحَجِّ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=197الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنَعَ الْقَتْلَ فِيهَا تَأْمِينًا لِلسُّبُلِ ، وَلِأَمْنِ
بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ ، وَأَمَّا رَجَبٌ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ فَقَدْ كَانَ شَهْرَ الِاعْتِمَارِ ، فِيهِ تُؤَدَّى الْعُمْرَةُ الْمَنْدُوبَةُ انْفِرَادًا ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ
nindex.php?page=treesubj&link=8193تَحْرِيمُ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ لِيَتَحَقَّقَ الْأَمْنُ الْكَامِلُ لِلْبَلَدِ الْحَرَامِ وَلِحَرَمِ اللَّهِ الْآمِنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=29&ayano=67أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ
وَلَعَلَّ الْفُقَهَاءَ الَّذِينَ قَالُوا : إِنَّ تَحْرِيمَ الْقِتَالِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ قَدْ نُسِخَ لَاحَظُوا هَذَا الْمَعْنَى ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ أَنْ يَنْتَقِلَ إِلَى الرَّفِيقِ الْأَعْلَى صَارَتِ الصَّحْرَاءُ الْعَرَبِيَّةُ بِوَبَرِهَا وَمَدَرِهَا كُلُّهَا تَحْتَ سُلْطَانِهِ ، وَفِي ظِلِّ اللَّهِ ، فَصَارَ الْحَجِيجُ يَصِلُونَ إِلَى
الْبَيْتِ الْحَرَامِ آمِنِينَ ، وَلَوْ كَانَ الْقِتَالُ دَائِرَ الرَّحَى فِي غَيْرِ الْبِلَادِ الْعَرَبِيَّةِ ، فَظَنُّوا النَّسْخَ ، لِأَنَّ التَّحْرِيمَ حِينَئِذٍ يَكُونُ قَدِ اسْتَوْفَى أَغْرَاضَهُ وَالْغَايَةَ مِنْهُ ; وَاسْتَنْبَطُوا مَعَ ذَلِكَ مِنْ نُصُوصٍ وَحَوَادِثَ مَا يُزَكِّي ذَلِكَ وَيُنَمِّيهِ ، عَلَى نَظَرٍ فِي ذَلِكَ .
وَثَانِي الْأَمْرَيْنِ اللَّذَيْنِ نَظُنُّهُمَا حِكْمَةَ التَّحْرِيمِ : أَنَّ الْإِسْلَامَ يَكْرَهُ الْقَتْلَ وَالْقِتَالَ ، وَهُوَ فِي نَظَرِهِ أَمْرٌ بَغِيضٌ لَا يُلْجَأُ إِلَيْهِ إِلَّا عِنْدَ الِاضْطِرَارِ ، وَإِنَّ النُّفُوسَ السَّلِيمَةَ تُقِرُّ ذَلِكَ ، وَلِذَلِكَ قَالَ سُبْحَانَهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=216كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ [ ص: 589 ] لَكُمْ . . . فَكَانَ مِنْ حَصْرِ الْقِتَالِ فِي أَضْيَقِ دَائِرَةٍ أَنْ يَتَّفِقَ الْفَرِيقَانِ عَلَى إِلْقَاءِ السِّلَاحِ أَمَدًا مَعْلُومًا فِي أَثْنَاءِ الْقِتَالِ لَعَلَّ الْعُقُولَ تَثُوبُ إِلَى رُشْدِهَا ، وَالنُّفُوسَ تَهْدَأُ حِدَّتُهَا ، فَيَكُونُ التَّفَاهُمُ وَالسَّلَامُ وَحَقْنُ الدِّمَاءِ . وَإِذَا كَانَ ثَمَّةَ أَشْهُرٌ يَحْرُمُ فِيهَا ، وَيَرْتَضِي الْفَرِيقُ الْآخَرُ ذَلِكَ التَّحْرِيمَ حَقْنًا لِلدِّمَاءِ فِيهَا ، فَإِنَّهَا سَتَكُونُ هُدْنَةً فِي أُوَارِ الْحَرْبِ ، وَلَعَلَّهَا تَكُونُ نَسِيمَ السَّلَامِ ; وَلَقَدْ لَاحَظَ النَّاسُ بِالتَّجَارِبِ الْمُسْتَمِرَّةِ أَنَّهُ مَا كَانَتْ هُدْنَةٌ فِي حَرْبٍ ضَرُوسٍ إِلَّا فَلَّتْ حِدَّتَهَا ، وَأُضْعِفَتْ شِرَّتُهَا ; وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ .
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=194وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ تَعَالَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ ; تِلْكَ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ ، وَكَلِمَةٌ جَامِعَةٌ لِكُلِّ مَا سَبَقَهَا مِنْ مَعَانٍ فِي الْقِتَالِ وَمُبَيِّنَةٌ لِمَقَاصِدِ الْإِسْلَامِ فِي عَلَاقَاتِ الْمُسْلِمِينَ مَعَ غَيْرِهِمْ ، وَعَلَاقَةِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ فِي اجْتِمَاعِهِمْ ، وَهِيَ قَضِيَّةٌ خُلُقِيَّةٌ سَلِيمَةٌ صَحِيحَةٌ تَقْبَلُهَا الْعُقُولُ السَّلِيمَةُ ، وَتُقِرُّهَا الْأَخْلَاقُ الْقَوِيمَةُ .
وَالْحُرُمَاتُ : جَمْعُ حُرْمَةٍ ، كَمَا أَنَّ الْحُجُرَاتِ جَمْعُ حُجْرَةٍ ; وَالظُّلُمَاتِ جَمْعُ ظُلْمَةٍ ، وَالْحُرْمَةُ الْأَمْرُ الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ وَمَنَعَ انْتِهَاكَهُ ، وَالْقِصَاصُ مِنْ مَعَانِيهِ الْمُسَاوَاةُ ، وَتَتَبُّعُ آثَارِ الْجَرِيمَةِ بِالْعُقُوبَةِ ، وَمَعْنَى الْقِصَاصِ فِي الْحُرُمَاتِ أَنْ يُعَامَلَ مُنْتَهِكُ الْحُرُمَاتِ بِمِثْلِ مَا فَعَلَ ، وَأَنْ يَكُونَ الْعِقَابُ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ ، وَأَلَّا يُقَيَّدَ الْمُعَاقِبُ بِحُرْمَةٍ انْتَهَكَهَا الْجَانِي ، فَإِذَا انْتَهَكَ الْجَانِي حُرْمَةَ النَّفْسِ بِقَتْلِهَا ، لَا يَتَقَيَّدُ الْمُعَاقِبُ بِحُرْمَةِ نَفْسِهِ ، بَلْ يَقْتَصُّ مِنْهَا ، لِأَنَّهُ إِذَا انْتَهَكَ حُرْمَةَ غَيْرِهِ بِقَتْلٍ أَوِ اعْتِدَاءٍ فَقَدْ أَبَاحَ مِنْ حُرُمَاتِهِ مُقَابِلَ مَا انْتَهَكَ . وَمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=194وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَنَّ مَا انْتَهَكُوهُ مِنْ حُرْمَةِ الْأَنْفُسِ بِقَتْلِهَا وَفِتْنَتِهَا عَنْ دِينِهَا ، وَحُرْمَةِ
الْبَيْتِ الْحَرَامِ الَّتِي انْتَهَكُوهَا بِإِخْرَاجِ أَهْلِهِ مِنْهُ وَصَدِّهِمْ عَنْهُ ، وَقِتَالِهِمْ فِيهِ ، وَحُرْمَةِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ إِذَا انْتَهَكُوهَا ، كُلُّ هَذَا
[ ص: 590 ] يُعَامَلُ بِالْقِصَاصِ وَالْمُسَاوَاةِ وَالْعَدْلِ ; فَمَا انْتَهَكُوهُ مِنْ حُرُمَاتٍ فِي حَقِّ غَيْرِهِمْ . يُقْتَصُّ بِمِثْلِهِ مِنْهُمْ وَلَا تُحْتَرَمُ فِيهِ حُرْمَةٌ لَمْ يَحْتَرِمُوا مِثْلَهَا فِي غَيْرِهِمْ .
وَذَلِكَ قَانُونٌ شَامِلٌ يَعُمُّ وَلَا يَخُصُّ ; يُنَظِّمُ الْعَلَاقَاتِ الدَّوْلِيَّةَ ، كَمَا يُنَظِّمُ التَّعَامُلَ فِي الْمُجْتَمَعِ الْإِسْلَامِيِّ ; فَمَنِ اعْتَدَى عَلَى غَيْرِهِ فِي مَالِهِ ، أَوْ نَفْسِهِ أَوْ بَعْضِهِ ، أَبَاحَ الْحَاكِمُ مِنْ نَفْسِهِ وَمَالِهِ مَا أَبَاحَهُ لِنَفْسِهِ مِنْ نَفْسِ غَيْرِهِ وَمَالِهِ ; وَالْمُعْتَدِي عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنَ الدُّوَلِ يُعَامَلُ بِقَدْرِ اعْتِدَائِهِ ، وَبِطَرِيقَةِ اعْتِدَائِهِ ، وَفِي زَمَانِ اعْتِدَائِهِ وَمَكَانِهِ ; فَإِنِ انْتَهَكَ حُرْمَةَ الزَّمَانِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَمْسِكَ بِحُرْمَتِهَا ، وَمَنِ انْتَهَكَ حُرْمَةَ الْمَكَانِ قُتِلَ فِيهِ ،
nindex.php?page=treesubj&link=9234وَمَنِ اعْتَدَى بِنَوْعٍ مِنَ الِاعْتِدَاءِ عُوقِبَ بِمِثْلِهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَمْرًا لَا يَحِلُّهُ شَرْعُ اللَّهِ ، وَلَا تُحِلُّهُ الطَّبَائِعُ السَّلِيمَةُ ; كَالْمُثْلَةِ ، وَقَتْلِ مَنْ لَا يُقَاتِلُ أَبَدًا - عَلَى مَا سَنُبَيِّنُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَإِنَّ قَضِيَّةً
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=194وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ هِيَ الْمُعَامَلَةُ الْعَادِلَةُ الَّتِي تُنَظِّمُ الِاجْتِمَاعَ الْإِنْسَانِيَّ فِي دُوَلِهِ وَآحَادِهِ ; وَلَيْسَ مِنَ الْفَضِيلَةِ فِي شَيْءٍ أَنْ تُغَلَّ يَدُ الْفَضَائِلِ عَنْ حُرُمَاتِ خَصْمِهَا فِي الْوَقْتِ الَّذِي اسْتَبَاحَ الْمُبْطِلُ كُلَّ الْحُرُمَاتِ ; وَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ لَهُ مَعْنَى إِلَّا نَصْرَ الرَّذِيلَةِ عَلَى الْفَضِيلَةِ ، وَخَضْدَ شَوْكَةِ الْحَقِّ لِيَأْكُلَهُ الْبَاطِلُ ; وَإِنَّ التَّسَامُحَ فِي هَذِهِ الْحَالِ هُوَ شَرُّ ذَرَائِعِ الرَّذَائِلِ ، وَالْقُوَّةُ وَالْقِصَاصُ فِي هَذِهِ الْحَالِ هُوَ حِمَايَةُ الْفَضِيلَةِ وَفَلُّ شَوْكَةِ الرَّذِيلَةِ . . وَهَكَذَا فَضَائِلُ الْإِسْلَامِ دَائِمًا فَضَائِلُ لَهَا شَوْكَةٌ وَقُوَّةٌ ، وَلَا تَعُدُّ التَّسَامُحَ الَّذِي يُمَكِّنُ لِلْبَاطِلِ مِنْ أَنْ يَتَغَلَّبَ عَلَى الْحَقِّ إِلَّا الِاسْتِسْلَامَ وَالذِّلَّةَ .
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=194فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ هَذَا تَخْصِيصٌ بَعْدَ تَعْمِيمٍ ، أَوْ تَفْرِيعٌ بَعْدَ ذِكْرِ الْقَاعِدَةِ الْكُلِّيَّةِ ، بِذِكْرِ بَعْضِ الْقَوَاعِدِ الْجُزْئِيَّةِ بِالْإِضَافَةِ إِلَيْهَا ، أَوِ الْخَاصَّةِ بِالنِّسْبَةِ لَهَا ; لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=194وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ قَضِيَّةٌ عَامَّةٌ ، كَمَا بَيَّنَّا ، تَعُمُّ مُعَامَلَةَ الدُّوَلِ وَمُعَامَلَةَ الْآحَادِ ، وَتُنَظِّمُ الِاجْتِمَاعَ الْإِنْسَانِيَّ وَتَنْظِيمُ الِاجْتِمَاعِ فِي الْأُمَّةِ الْوَاحِدَةِ ; وَهِيَ قَضِيَّةُ الْفَضِيلَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ الْمُوجِبَةِ الَّتِي تَحْمِي نَفْسَهَا مِنَ الرَّذِيلَةِ بِالْقِصَاصِ مِنْهَا أَيًّا كَانَتْ صُورَةُ الرَّذِيلَةِ ، وَأَيًّا كَانَ مَوْضُوعُهَا .
[ ص: 591 ] أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=194فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَهِيَ تُبَيِّنُ الْعَلَاقَةَ الدَّوْلِيَّةَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ ; لِأَنَّ الْخِطَابَ فِيهَا لِلْمُسْلِمِينَ مُجْتَمَعِينَ كَدَوْلَةٍ وَاحِدَةٍ لَهَا نُظُمٌ حَاكِمَةٌ ، وَسِيَاسَةٌ قَائِمَةٌ ، يُبَيِّنُ هَذَا الْخِطَابُ مَا يَجِبُ عَلَى دَوْلَتِهِمْ فِي مُعَامَلَةِ غَيْرِهِمْ بِهِ فِي حَرْبٍ أَوْ سِلْمٍ ، وَفِي مُنَازَلَةٍ أَوْ مُهَادَنَةٍ ، فَذِكْرُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَنَّ تِلْكَ الْمُعَامَلَةَ هِيَ الْمُعَامَلَةُ بِالْمِثْلِ .
وَمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=194فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ أَنَّ مَنْ يَعْتَدِي عَلَيْكُمْ مِنْ أُمَمٍ غَيْرِكُمْ بِانْتِهَاكِ حُرْمَةٍ مِنْ حُرُمَاتِ دَوْلَتِكُمْ أَوْ إِلْحَاقِ أَذًى بِجَمَاعَتِكُمْ ، بِحَرْبٍ يَشُنُّهَا عَلَيْكُمْ ، أَوْ مُصَادَرَةٍ لِمَتَاجِرِكُمْ ، أَوْ تَرَصُّدٍ فِي الطُّرُقِ الَّتِي تَسْلُكُهَا قَوَافِلُكُمْ أَوْ سُفُنُكُمْ ، فَعَامِلُوهُ بِالْمِثْلِ ، وَأَنْزِلُوا بِهِ مِثْلَ مَا يُنْزِلُهُ بِكُمْ ; وَإِنِ انْتَهَكَ حُرْمَةَ مَكَانٍ فَانْتَهِكُوا مِنْهُ مِثْلَ مَا انْتَهَكَ مِنْ غَيْرِ تَحَرُّجٍ فِي ذَلِكَ وَلَا تَأَثُّمٍ ، فَإِنَّ هَذَا مَا تَقْضِي بِهِ قَوَانِينُ الْمُسَاوَاةِ وَالْمُعَامَلَةِ بِالْمِثْلِ .
وَهُنَا يُثِيرُ الْعُلَمَاءُ بَحْثًا لَفْظِيًّا : كَيْفَ يُسَمَّى الْمُقَابَلَةُ بِالْمِثْلِ اعْتِدَاءً ; إِنَّ الِاعْتِدَاءَ هُوَ الِابْتِدَاءُ ، أَمَّا الْعُقُوبَةُ أَوِ الْمُقَاوَمَةُ فَهِيَ عَدْلٌ وَانْتِصَارٌ ، لِأَنَّ مُقَاوَمَةَ الظُّلْمِ هِيَ عَيْنُ الْعَدْلِ ، فَكَيْفَ تُسَمَّى اعْتِدَاءً ; وَقَدْ أَجَابُوا عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ الْمُشَاكَلَةَ فِي الْفِعْلِ الَّتِي تَقْتَضِيهَا الْمُمَاثَلَةُ سَوَّغَتْ أَنْ يُسَمَّى الْفِعْلُ بِاسْمِ نَظِيرِهِ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=40وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا وَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ الْحَقِيقَةَ ، لِأَنَّهُ وَإِنَّ تَشَاكَلَتِ الْأَفْعَالُ وَالْأَوْصَافُ الْمُنْبَعِثَةُ مِنَ الْفَاعِلِ مُخْتَلِفَةٌ ، فَالْفِعْلُ الْأَوَّلُ اعْتِدَاءٌ لِأَنَّهُ صَدَرَ عَنْ ظَالِمٍ ، وَكَانَ ظُلْمًا ، وَالثَّانِي لَيْسَ فِي حَقِيقَتِهِ اعْتِدَاءً ، لِأَنَّهُ انْبَعَثَ عَنْ عَادِلٍ ، وَكَانَ عَدْلًا .
هَذَا مَرْمَى مَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ اعْتِرَاضًا وَإِيرَادًا ، وَجَوَابًا وَرَدًّا ; وَعِنْدِي أَنَّ تَسْمِيَةَ مُقَاوَمَةِ الِاعْتِدَاءِ بِمِثْلِهِ اعْتِدَاءً ، إِذَا كَانَتِ الْمُقَاوَمَةُ حَرْبًا وَنِزَالًا ، فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى مَعْنَى إِنْسَانِيٍّ جَلِيلٍ ، وَهُوَ أَنَّ الْقَتْلَ فِي كُلِّ صُوَرِهِ وَأَحْوَالِهِ ، وَلَوْ كَانَ رَدًّا لِمِثْلِهِ ، فِيهِ اعْتِدَاءٌ عَلَى النَّفْسِ الْإِنْسَانِيَّةِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ قَتْلَهَا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ ، وَأَنَّهُ عَمَلٌ خَطِيرٌ تَقْشَعِرُّ مِنْ هَوْلِهِ الْأَبْدَانُ ، وَلَا يَصِحُّ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ إِلَّا إِذَا اضْطُرَّتِ الْفَضِيلَةُ وَالْأَخْلَاقُ إِلَيْهِ ; وَإِنَّ الْإِقْدَامَ عَلَيْهِ يَكُونُ كَالْإِقْدَامِ عَلَى الضَّرُورَاتِ الْمَحْظُورَةِ فِي
[ ص: 592 ] ذَاتِهَا ، يُقَدَّرُ بِقَدَرِهَا . فَلَا يُسْرِفِ الْقَاتِلُ فِي الْقَتْلِ ; لِأَنَّهُ فِي أَصْلِهِ مَحْظُورٌ مَمْنُوعٌ كَأَكْلِ الْمَيْتَةِ لَا يُبَاحُ إِلَّا لِلضَّرُورَةِ ،
nindex.php?page=treesubj&link=9208وَلَا يَصِحُّ لِلْمُقَاتِلِ بِاسْمِ الْإِسْلَامِ أَنْ يُسْرِفَ فِي الْقَتْلِ مَا ْأَمْكَنَهُ الِانْتِصَارُ بِدُونِهِ ; وَلَعَلَّ هَذَا الْمَعْنَى الْجَلِيلَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ
nindex.php?page=showalam&ids=2عُمَرَ الْفَارُوقَ الَّذِي كَانَ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ يَكْرَهُ قِتَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=22خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ ، وَيَقُولُ : " إِنَّ فِي سَيْفِهِ لَرَهَقًا " وَيُعْجَبُ بِقِتَالِ
nindex.php?page=showalam&ids=59عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ الَّذِي فَتَحَ
مِصْرَ بِأَقَلِّ مَا يُتَصَوَّرُ مِنَ الدِّمَاءِ ، وَيَقُولُ " إِنَّ حَرْبَهُ رَفِيقَةٌ " .
وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=194فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ هُوَ الْقَاعِدَةُ الْعَامَّةُ لِلْقَانُونِ الدَّوْلِيِّ فِي الْإِسْلَامِ فِي السِّلْمِ وَالْحَرْبِ مَعًا ; فَمَنْ لَمْ يَعْتَدِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ، وَتَرَكَ دَعْوَةَ الْإِسْلَامِ الْحَقِّ تَسِيرُ فِي مَسَارِهَا ، وَتَسْتَقِيمُ عَلَى مِنْهَاجِهَا مِنْ غَيْرِ مُحَاجَزَةٍ بَيْنَ النَّاسِ وَبَيْنَهَا ، فَالْعَلَاقَةُ بِهِ سِلْمِيَّةٌ خَالِصَةٌ ، كَالشَّأْنِ مَعَ
nindex.php?page=showalam&ids=888النَّجَاشِيِّ مَلِكِ
الْحَبَشَةِ ; وَمَنِ اعْتَدَى عَلَى الْمُسْلِمِينَ كَانَتِ الْعَلَاقَةُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ بِقَدْرٍ ذَلِكَ الِاعْتِدَاءِ ; سَوَاءٌ أَكَانَ الِاعْتِدَاءُ فِي سِلْمٍ أَمْ لَبِسَ لَبُوسَ الْحَرْبِ ; وَإِذَا عَاهَدَهُمْ أَحَدٌ حَفِظُوا عُهُودَهُمْ إِلَّا أَنْ يُنْكَثَ مَعَهُمْ
nindex.php?page=tafseer&surano=48&ayano=10فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ
وَلَكِنَّ الْخَصْمَ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ خُلُقٌ قَدْ يَقَعُ فِي أُمُورٍ تَضُرُّ بِالْخُلُقِ الْقَوِيمِ ، كَأَنْ يَنْتَهِكَ الْأَعْرَاضَ فِي الْحَرْبِ ، أَوْ يَقْتُلَ الذُّرِّيَّةَ الضِّعَافَ ، أَوِ الشُّيُوخَ الَّذِينَ لَا حَوْلَ لَهُمْ وَلَا طَوْلَ ، فَهَلْ يُعْتَدَى بِمِثْلِ اعْتِدَائِهِ ، وَيَسْلُكُ الْمُسْلِمُونَ مِثْلَ مَسْلَكِهِ ; هَذَا مَا بَيَّنَتْهُ الْجُمْلَةُ الْآتِيَةُ ، وَهُوَ عَدَمُ الْجَوَازِ .
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=194وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ذَيَّلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ بِهَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ لِكَيْلَا يَنْدَفِعَ الْمُقَاتِلُونَ الْمُسْلِمُونَ فِي الْقِتَالِ فَيَضَعُوا سُيُوفَهُمْ عَلَى أَعْنَاقِ مَنْ يَسْتَحِقُّهَا وَمَنْ لَا يَسْتَحِقُّهَا . . وَيُنْزِلُوهَا فِي مَوْضِعِ الْبُرْءِ وَالسَّقَمِ ، فَيَقْتُلُوا وَيَتَجَاوَزُوا الْحَدَّ ; لِأَنَّهُ إِذَا اشْتَجَرَتِ السُّيُوفُ ، وَكَثُرَتِ الْحُتُوفُ ; قَدْ تَتَجَاوَزُ مَوْضِعَهَا ،
[ ص: 593 ] فَتَكُونُ فِي غَيْرِ الْعَدْلِ ; وَقَدْ يُسَايِرُونَ خُصُومَهُمْ فِي أَذَاهُمْ فَيَقْتُلُونَ الذَّرَارِيَ أَوِ الشُّيُوخَ أَوِ الضِّعَافَ أَوِ الرُّهْبَانَ وَالْعُبَّادَ فِي الصَّوَامِعِ كَمَا يَفْعَلُ خُصُومُهُمْ ، أَوْ يَحْرُقُونَ الزَّرْعَ وَيَقْتُلُونَ الضَّرْعَ كَمَا يَعِيثُ غَيْرُهُمْ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا ; فَأَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِتَقْوَى اللَّهِ فِي الْحَرْبِ بِأَنْ يُرَاقِبُوهُ وَحْدَهُ ، وَيَخَافُوهُ وَحْدَهُ ، وَيُلَاحِظُوا التَّقْوَى فِي قِتَالِهِمْ ; فَإِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ هِيَ الْوَصْفَ الْمُلَازِمَ لَهُمْ فِي حَرْبِهِمْ وَسِلْمِهِمْ ; فَإِنْ حَوَّلَتْهُمُ الْحَرْبُ إِلَى أُسُودٍ كَوَاسِرَ ، فَلْيَعْلَمُوا أَنَّ الْقُلُوبَ الْإِنْسَانِيَّةَ الدِّينِيَّةَ الَّتِي تَخْشَى اللَّهَ مَا زَالَتْ فِي إِهَابِهَا ، أَوْ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ كَذَلِكَ دَائِمًا .
وَلَقَدْ
nindex.php?page=treesubj&link=8265نَهَى الْإِسْلَامُ عَنْ قَتْلِ الْعُسَفَاءِ وَهُمُ الْعُمَّالُ الَّذِينَ لَا يَشْتَغِلُونَ بِحَرْبٍ ، وَالذُّرِّيَّةِ ; كَمَا نَهَى عَنْ قَتْلِ الرُّهْبَانِ الْمُلَازِمِينَ لِمَعَابِدِهِمْ ، وَلَقَدْ قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=2عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : اتَّقَوُا اللَّهَ فِي الذُّرِّيَّةِ وَالْفَلَّاحِينَ الَّذِينَ لَا يَنْصِبُونَ لَكُمُ الْحَرْبَ . وَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=1أَبُو بَكْرٍ فِي الرُّهْبَانِ لِقَائِدِ الْجَيْشِ : وَسَتَجِدُ أَقْوَامًا زَعَمُوا أَنَّهُمْ حَبَسُوا أَنْفُسَهُمْ لِلَّهِ ، فَذَرُوهُمْ وَمَا زَعَمُوا أَنَّهُمْ حَبَسُوا أَنْفُسَهُمْ لَهُ . وَلَقَدْ خَشِيَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
nindex.php?page=showalam&ids=22خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ أَنْ يَقْتُلَ الذُّرِّيَّةَ وَالضِّعَافَ فَقَالَ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=679345الْحَقْ nindex.php?page=showalam&ids=22بِخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ فَلَا يَقْتُلَنَّ ذُرِّيَّةً وَلَا عَسِيفًا .
وَلَكِنْ قَدْ يَقُولُ قَائِلٌ إِنَّ أَعْدَاءَ الْإِسْلَامِ إِنْ قَتَلُوا الذُّرِّيَّةَ وَالضِّعَافَ وَالشُّيُوخَ الَّذِينَ لَا يُعِينُونَ فِي حَرْبٍ فَإِنَّ الْعَدْلَ مُعَامَلَتُهُمْ بِالْمِثْلِ ، وَإِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ أَنَكَى بِهِمْ ، وَالنِّكَايَةُ الشَّدِيدَةُ قَدْ تَدْفَعُهُمْ إِلَى الْخِذْلَانِ ، أَوْ عَلَى الْأَقَلِّ تَمْنَعُهُمْ مِنْ قَتْلِ مَنْ لَا يُقَاتِلُونَ ; وَنَقُولُ إِنَّ الْإِسْلَامَ أَمَرَ بِقَتْلِ مَنْ يُقَاتِلُ فَقَطْ ،
nindex.php?page=tafseer&surano=35&ayano=18وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كَانَ الضُّعَفَاءُ لِيُقَاتِلُوا ، فَمَا يُسَوِّغُ فِي حُكْمٍ أَقْوَى أَنْ يُقْتَلُوا ; وَإِنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=19862تَقْوَى اللَّهِ فِي الْحُرُوبِ تُقَوِّي الْقُلُوبَ ، وَالرَّأْفَةُ بِعِبَادِ اللَّهِ تُدْنِي نَصْرَ اللَّهِ ; وَلِذَلِكَ قَالَ سُبْحَانَهُ فِي خِتَامِ الْآيَةِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=194وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ فَاسْتَشْعِرُوا التَّقْوَى فِي حَرْبِكُمْ ، وَادَّرِعُوا بِهَا فِي قِتَالِكُمْ ، فَلَا تَعْتَدُوا فِي الْقِتَالِ ، وَلَا تُقَاتِلُوا مَنْ لَمْ يَرْفَعْ سَيْفًا ، فَإِنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ بِالنَّصْرِ وَالتَّأْيِيدِ دَائِمًا ; وَاللَّهُ وَلِيُّ الصَّابِرِينَ .
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=195وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ مَشْرُوعِيَّةَ الْقِتَالِ عِنْدَ الِاعْتِدَاءِ ، وَرَدِّ الِاعْتِدَاءِ بِمِثْلِهِ قَدْرًا وَزَمَانًا وَمَكَانًا مَعَ مُلَاحَظَةِ الدِّينِ وَعَدَمَ الِاسْتِرْسَالِ فِي أَمْرٍ يُخَالِفُهُ
[ ص: 594 ] إِنْ وَقَعَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، أَوِ الْمُحَارِبِينَ بِشَكْلٍ عَامٍّ مِثْلُهُ ; وَلَقَدْ أَخَذَ بَعْدَ ذَلِكَ يُبَيِّنُ مَا هُوَ عُدَّةُ الْحَرْبِ ، وَقُوَّةُ الْجَمَاعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ ، وَرِبَاطُ بُنْيَانِهَا ، وَهُوَ الْمَالُ ، فَأَمَرَ الْأَغْنِيَاءَ بِإِنْفَاقِ الْمَالِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَيْ فِي كُلِّ مَا هُوَ خَيْرٌ وَبِرٌّ ، فَإِنَّ كُلَّ خَيْرٍ وَطَاعَةٍ يُعَدُّ سَبِيلَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ ، وَإِنْفَاقُ الْمَالِ عَلَى ذَلِكَ هُوَ قُوَّةُ الْأُمَّةِ فِي سِلْمِهَا ، وَقُوَّةُ السِّلْمِ هِيَ عُدَّةُ الْحَرْبِ ; وَإِنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=23468_27390مِنَ الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الْإِنْفَاقَ فِي الْحُرُوبِ ، وَإِعْدَادَ الْعَتَادِ الْحَرْبِيِّ ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ قُوَّةَ الْحَرْبِ الْمُبَاشِرَةِ ، لَا يَنْفِي أَنَّ قُوَّةَ الْحُرُوبِ تَعْتَمِدُ عَلَى قُوَّةِ الْوَحْدَةِ فِي الْأُمَّةِ ، وَقُوَّةِ الصِّلَةِ بَيْنَ ضُعَفَائِهَا وَأَقْوِيَائِهَا ، وَأَغْنِيَائِهَا وَفُقَرَائِهَا ، وَذَلِكَ يَكُونُ بِسَدِّ حَاجَةِ الْمُعْوِزِينَ ، وَإِعْطَاءِ الْمَحْرُومِينَ ، وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "
nindex.php?page=hadith&LINKID=663994أَبْغُونِي فِي ضُعَفَائِكُمْ فَإِنَّمَا تُرْزَقُونَ وَتُنْصَرُونَ بِضُعَفَائِكُمْ " .
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=195وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ التَّهْلُكَةُ بِضَمِّ اللَّامِ : مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْهَلَاكِ ، كَمَا قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=12078أَبُو عُبَيْدَةَ nindex.php?page=showalam&ids=14416وَالزَّجَّاجُ ، وَادَّعَى بَعْضُ عُلَمَاءِ اللُّغَةِ أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مَصْدَرٌ عَلَى وَزْنِ " تَفْعُلَةٍ " إِلَّا هَذَا ، وَلَكِنْ رُوِيَ عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=16076سِيبَوَيْهِ كَلِمَتَانِ أُخْرَيَانِ هُمَا تَنْصُرَةٌ وَتَسْتُرَةٌ ، بِمَعْنَى نَصَرَ وَسَتَرَ . وَقَدْ جَوَّزَ
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَكُونَ أَصْلُهَا " تَهْلُكَةً " قُلِبَتِ الْكَسْرَةُ ضَمَّةً ، كَكَسْرَةِ الْجِوَارِ قَدْ تُقْلَبُ ضَمَّةً فَيُقَالُ : " الْجُوَارُ " ، وَمَهْمَا يَكُنْ فَإِنَّ " التَّهْلُكَةَ " إِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى " الْهَلَاكِ " فِي الْمَالِ ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ ثَمَّةَ فَرْقٌ دَقِيقٌ اقْتَضَى الْعُدُولَ مِنْ لَفْظِ الْهَلَاكِ إِلَى لَفْظِ التَّهْلُكَةِ كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فِي التَّخَيُّرِ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمُتَرَادِفَةِ فِي الْكَلَامِ الْبَلِيغِ ، وَلَوْ أَنَّ لَنَا أَنْ نَتَلَمَّسَ فَرْقًا فَهُوَ أَنْ نَقُولَ : إِنَّ التَّهْلُكَةَ هَلَاكٌ خَاصٌّ ، وَهُوَ الَّذِي يُبَاشِرُ سَبَبُهُ مَنْ يَنْزِلُ بِهِ الْهَلَاكُ ، وَرُبَّمَا لَا يَنْزِلُ دُفْعَةً وَاحِدَةً ، بَلْ يَسْرِي شَيْئًا فَشَيْئًا ، وَلَكِنَّ نَتِيجَتَهُ تَكُونُ مُؤَكَّدَةً ، أَمَّا لَفْظُ الْهَلَاكِ فَهُوَ يَشْمَلُ مَا يَنْزِلُ دُفْعَةً وَاحِدَةً وَمَا لَا يَكُونُ لِلْإِنْسَانِ فِيهِ إِرَادَةٌ وَغَيْرُهُمَا .
وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=195وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ قِيلَ زَائِدَةٌ فِي الْإِعْرَابِ لِتَقْوِيَةِ مَعْنَى الْإِلْقَاءِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ ، فَيَقْوَى النَّهْيُ ; وَقِيلَ الْمَعْنَى : لَا تُلْقُوا أَنْفُسَكُمْ مَجْذُوبَةً
[ ص: 595 ] بِأَيْدِيكُمْ وَإِرَادَتِكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ . فَلَا تَكُونُ زَائِدَةً . وَعَلَى أَنَّ الْبَاءَ زَائِدَةٌ فِي الْإِعْرَابِ يَكُونُ الْمُرَادُ بِالْأَيْدِي الْأَنْفُسَ ، مِنْ قَبِيلِ إِطْلَاقِ اسْمِ الْجُزْءِ وَإِرَادَةِ الْكُلِّ ، وَالْمَعْنَى : لَا تُلْقُوا أَنْفُسَكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ . وَالْمُؤَدَّى فِي التَّخْرِيجَيْنِ وَاحِدٌ .
وَالنَّهْيُ عَنِ الْإِلْقَاءِ فِي التَّهْلُكَةِ بَعْدَ الْأَمْرِ بِالْإِنْفَاقِ وَبَعْدَ شُئُونِ الْقِتَالِ ، يُعَيِّنُ الْمَعْنَى بِأَنَّهُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِشُئُونِ الدِّفَاعِ عَنِ الدَّوْلَةِ وَالذَّوْدِ عَنْ حِيَاضِهَا ، وَحِفْظِ كِيَانِهَا ، أَوْ عَلَى الْأَقَلِّ يَتَّجِهُ نَحْوَ هَذِهِ الْغَايَةِ أَوْ ذَلِكَ الْمَرْمَى أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ ; وَلِذَلِكَ فَسَّرَ الْأَكْثَرُونَ الْإِلْقَاءَ إِلَى التَّهْلُكَةِ بِأَنَّهُ الْكَفُّ عَنِ الْقِتَالِ وَالتَّقَاعُدُ عَنْهُ فَتَكُونُ الْأُمَّةُ نَهْبًا لِلْمُغَيِّرِينَ بِسَبَبِ ذَلِكَ ، وَالْكَفُّ عَنِ الِاسْتِعْدَادِ لِلْحَرْبِ بِإِعْدَادِ الْعُدَّةِ وَأَخْذِ الْأُهْبَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=60وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَبِقَبْضِ الْأَغْنِيَاءِ أَيْدِيَهُمْ عَنْ إِعْطَاءِ حَقِّ الْفُقَرَاءِ ; فَيَكُونُ بَأْسُ الْأُمَّةِ بَيْنَهَا شَدِيدًا ، يُسَهِّلُ إِغَارَةَ الْمُغِيرِينَ عَلَيْهَا ; وَلِذَلِكَ رَوَى
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنُ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ وَهُوَ تُرْجُمَانُ الْقُرْآنِ مَا نَصُّهُ : لَا تُمْسِكُوا عَنِ الصَّدَقَةِ فَتَهْلَكُوا .
هَذَا هُوَ مَعْنَى الْآيَةِ عَلَى مَا عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ وَهُوَ الَّذِي يَتَّفِقُ مَعَ السِّيَاقِ ، وَمَعَ الْمَرْوِيِّ فِي جُمْلَتِهِ ; فَقَدْ رَوَى
nindex.php?page=showalam&ids=12070الْبُخَارِيُّ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي النَّفَقَةِ ، وَرَوَى
nindex.php?page=showalam&ids=17346يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ nindex.php?page=hadith&LINKID=674074عَنْ أَسْلَمَ قَالَ : " غَزَوْنَا الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ وَعَلَى الْجَمَاعَةِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْوَلِيدِ وَالرُّومُ مُلْصِقُو ظُهُورِهِمْ بِحَائِطِ الْمَدِينَةِ ، فَحَمَلَ رَجُلٌ عَلَى الْعَدُوِّ فَقَالَ النَّاسُ : مَهْ مَهْ ! لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ : يُلْقِي بِيَدَيْهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ ! فَقَالَ nindex.php?page=showalam&ids=50أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ : " سُبْحَانَ اللَّهِ أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِينَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ لَمَّا نَصَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ ، وَأَظْهَرَ دِينَهُ قُلْنَا هَلُمَّ نُقِيمُ فِي أَمْوَالِنَا ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ :