nindex.php?page=treesubj&link=20009_28640_28723_30231_30364_30505_30526_30527_32079_32840_34113_34232_34513_28973nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=286لا يكلف الله نفسا إلا وسعها قال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري في تفسيره : " الوسع ما يسع الإنسان ولا يضيق عليه ولا يحرج فيه ، أي لا يكلفها إلا ما يتسع فيه طوقه ، ويتيسر عليه دون مدى الطاقة والمجهود . وهذا إخبار عن عدله ورحمته كقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=185يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر لأنه كان في إمكان الإنسان وطاقته أن يصلي أكثر من الخمس ، ويصوم أكثر من الشهر ، ويحج أكثر من حجة ، وهذا الكلام يستفاد منه أن الوسع غير الطاقة ، فالطاقة هي غاية المجهود وأقصاه ، وما يفعله الإنسان قادرا عليه ولكن في تعب وجهد ، والوسع ما يكون في الإمكان ، ولكن تكون بعد الأداء سعة من قدرة على أداء غيره ، ولكن لا يؤدي الزيادة إلا بجهد . ولا يفهم من هذا أن تكليف الوسع لا تكون فيه مشقة قط ، بل إن كل تكليف هو أمر بما فيه كلفة ، وهي المشقة ; وعلى ذلك تكون التكليفات الشرعية لها ثلاث خواص ملازمة : وهي أن فيها مشقة محتملة ، وأنها تكون في الوسع والقدرة من غير حرج ولا ضيق ، وأنها تكون من غير مجهود شديد يكون
[ ص: 1091 ] أقصى الطاقة . تلك هي خواص تكليف الله تعالى لكل نفس كما تدل عليه الجملة السامية .
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=286لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت هذه الجملة السامية تبين أن
nindex.php?page=treesubj&link=30531_29468كل تكليف قد اقترن بجزائه ، وأن كل امرئ سيجزى على الخير خيرا ، وعلى الشر شرا . وما تضمنه ذلك النص الكريم هو نتيجة لما تضمنه النص السابق ; لأن النص السابق أفاد أن ثمة تكليفا ، ولا ينتج التكليف نتائجه إلا إذا كان ثمة جزاء ; والنص السابق أيضا أفاد أن الله لا يكلف إلا بما يكون في القدرة من غير إرهاق ، بل بإرادة حرة ويسر لا عسر فيه . وذلك أساس للقيام بالتكليف بإرادة حرة ، ومقدرة غير مرهقة ; وذلك يوجب الجزاء العادل .
وقد اتفق العلماء على أن قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=286لها ما كسبت المراد بها الحسنات التي يثيب الله عليها ; وقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=286وعليها ما اكتسبت المراد به السيئات التي التي يعاقب الله تعالى عليها . وقد أخذوا هذا من النص باللام في الجملة الأولى ، والنص بعلى في الجملة الثانية ; فإن التعبير باللام التي تفيد الملكية المفيدة في مقابل على التي تفيد التحميل ، ووضع الشيء على الشخص ، يجعل الأولى مفيدة للجزاء ثوابا ، والثانية مفيدة للجزاء عقابا ; وإذا لم يكن ذلك التقابل ، فإنه يعبر باللام في موضع الثواب والعقاب ; فيقول سبحانه : ( ولهم عذاب أليم ، و ( لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ، إذ لا قرينة تدل على الملكية المفيدة ; فتكون اللام لمطلق الاختصاص .
وهنا سؤال لفظي : لماذا عبر سبحانه عن هذا الخير بقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=286لها ما كسبت وعن الشر بـ
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=286اكتسبت مع أن الكسب يكون للخير وللشر كما في قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=27والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها ؟ وقد أجاب عن ذلك
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري بقوله : " في الاكتساب اعتمال ; فلما كان الشر مما تشتهيه النفس ، وهي منجذبة إليه وأمارة به ، كانت في تحصيله أعمل وأجد ; فجعلت لذلك مكتسبة
[ ص: 1092 ] فيه " وهذا التعليل قد يشير إلى أن الشر الكبير الذي تعتمله النفس وتجد فيه ، وتلح وتستمر عليه ، هو موضع المؤاخذة ، والضئيل قد يكون موضع العفو ، أي ما تفعله النفس من خير فكله موضع ثواب ، قل أو جل ، وذلك معنى صحيح .
ولكن هناك تعليلا آخر نراه ، وهو أن التعبير بـ اكتسب يفيد معنى الاعتمال ، وهو ما يفعله الإنسان غير منساق إليه ، والطبيعة الإنسانية تنحو نحو الخير ، والشر ضد الفطرة وضد الوجدان والضمير ، ومن يفعله يغالب فطرته ثم لا يلبث إلا قليلا حتى يذوق شجرة الشر فينساق ، وإن الإنسان ليرى ذلك في كل من يرتكب الجرائم ، فهو يبتدئ بالجريمة مغالبا نفسه ثم تطاوعه ثم ينساق ، فالقاتل كذلك ، والسارق ، والزاني ، أول جريمة يرتكبها بتعمل ، ثم يألف الارتكاب فيكون سهلا ، لذلك عبر عن الشر بالاكتساب ، لأنه ضد الفطرة التي فطر الله الناس عليها ، وضد الضمير ، وعبر عن الخير هنا بالكسب لأنه الفطرة .
وبعد بيان سنة الله في التكليف وجزائه ذكر سبحانه
nindex.php?page=treesubj&link=19775_32498حال المؤمن المخلص في ضراعته ، وضراعته بالالتجاء إلى ربه ودعائه ، وقد ذكر سبحانه ستة أدعية تفيد هذه الضراعة وتشير إلى رحمة الله تعالى وخواص شرعه الشريف .
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=286ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا هذا هو الدعاء الأول ، وقد ابتدأ بنداء الله سبحانه بـ " ربنا " لكمال الضراعة والشعور بالربوبية ، وكمال إنعام الله تعالى ، وضعف المخلوق أمام الخالق ، ووفاء المنعم عليه أمام المنعم ، وللإشعار بأن ما تضمنه الدعاء من النعم التي أنعم بها ، وكمال الربوبية التي رب الناس بها .
والمؤاخذة معناها المجازاة ، وأصلها من الأخذ . وفي التعبير عن المجازاة بالمؤاخذة إشارة إلى أن ما يستحقون من عقاب هو في نظير ما أخذوا من نعم لم يعرفوا حقها ، فهم أخذوها وجحدوها ، فأخذهم الله تعالى بحقها .
[ ص: 1093 ] وقد سأل سائل : لماذا ذكر الله سبحانه عن أحوالهم هذا الدعاء مع أنه مرفوع عن أمة
محمد بقوله - صلى الله عليه وسلم - : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=19568رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " ؟ وقد أجاب عن ذلك
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري فقال : " إنهم كانوا متقين الله حق تقاته ، فما كانت تفرط منهم فرطة إلا على وجه النسيان والخطأ ، فكان وصفهم بالدعاء بذلك إيذانا ببراءة ساحتهم عما يؤاخذون به ، كأنه قيل : إن كان النسيان والخطأ مما يؤاخذ به فما فيهم سبب المؤاخذة إلا الخطأ والنسيان ويجوز أن يدعو الإنسان بما علم أنه حاصل له قبل الدعاء من فضل الله لاستدامته والاعتداد بالنعمة فيه " . هذه إجابة قيمة ، وأزيد عليها أن المتقين أرهفت ضمائرهم وقويت نفوسهم ، واشتدت خشيتهم من الله ، حتى لقد أحسوا من فرط حساسيتهم أنهم محاسبون على ما لا حساب عليه ; وإن
nindex.php?page=treesubj&link=19862المؤمن التقي يستكثر هفواته ، ويستقل حسناته ، وإن النسيان والخطأ قد توهموا فيهما أن يكون سببهما الإهمال وعدم العناية ، وهما كذلك أحيانا ، فكان فرط إحساسهم مرجحا لجانب المؤاخذة على جانب العفو ، وجانب الخوف على جانب الرجاء ، فكان الدعاء .
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=286ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا الإصر : هو العبء الكبير ، مأخوذ من أصر بمعنى حبس ، فكأنه لثقله يحبس صاحبه في مكانه فيمنعه من الحركة ، وحمل عليه بمعنى وضع عليه وألقى عليه . وهذا هو الدعاء الثاني ، ومعناه أن أولئك المتقين حالهم حال ضراعة لربهم بألا يلقي عليهم آصارا شدادا من التكليفات تثقل عليهم حتى يعجزوا عن أدائها أو لا يؤدوها إلا في حال من الشدة ، كما حمل الله جلت قدرته وعلت حكمته على الذين من قبلهم . ولكن ما هذه الآصار ، وتلك الأعباء ; أهي أعباء من التكليفات تتعلق بالأوامر الشرعية والنواهي ، أم هي ما يبتلى به المؤمن من شدائد واختبارات كما ابتلى الذين من قبلهم في قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=214أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء [ ص: 1094 ] والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب
وإني أميل إلى أن الآصار هي من هذا النوع من الابتلاء ، كأنهم لرغبتهم في نصر الله تعالى يضرعون إليه أن يمدهم بعونه في حمل عبء الجهاد في سبيل نشر الإسلام والدعوة إليه . ويزكي ذلك قوله تعالى في ختام السورة
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=286فانصرنا على القوم الكافرين ولكن هل معنى ذلك أنهم لا يريدون أن يختبروا كما اختبر أقوياء الإيمان ممن سبقوهم ؟ وأقول في الإجابة عن ذلك : إن طالب الحق المؤمن به يستكثر فعل الخير من غيره ، ويستقل حال نفسه وفعله ، وكأنهم يعترفون بفضل من سبقوهم ، ويحسبون أنهم دونهم ، فيطلبون عون الله تعالى ، وذلك دليل قوة الإيمان ، وأنهم ليسوا أقل منهم ، بل يزيدون بذلك الاعتراف الكريم .
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=286ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به الطاقة : قال فيها
الراغب الأصفهاني ما نصه : " الطاقة اسم لمقدار ما يمكن الإنسان أن يفعله بمشقة ; وذلك تشبيه بالطوق المحيط بالشيء ; فقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=286ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به أي ما يصعب علينا مزاولته ، وليس معناه لا تحملنا ما لا قدرة لنا به ; فالطاقة على هذا تكون فيما يمكن فعله بأقصى القدرة . وهذا هو الدعاء الثالث وقد كررت فيه كلمة " ربنا " لكمال الضراعة ولبيان أن حالهم دائما يتجدد فيها الشعور بالربوبية ، وحق الخالق المنعم عليهم . وهذا هو الدعاء هو تدرج مترتب على الدعاء السابق . لقد ضرعوا إلى الله ألا يختبرهم ذلك الاختبار الشديد الذي ألقي على عاتق من سبقوهم أو يخشون ألا يقوموا بحقه كما قام من قبلهم ثم يضرعون الآن ألا يكلفوا إلا ما يطيقون ، أي أنهم على أتم استعداد لأن يبذلوا أقصى قدرتهم ، وغاية قوتهم ; فإن الطاقة أقصى القدرة كما بينا ونقلنا . فمعنى الجملة السامية : لا تحملنا ما فوق الطاقة ونحن على استعداد بعونكم لما هو كل الطاقة . وهذه حال من الإيمان سامية . وعبر هنا بالفعل المضعف " تحملنا " وفي الأول من غير تضعيف ; لأن الإصر نفسه والتعبير بعلى فيهما بيان شدة الاختبار ، فلا حاجة إلى مبالغة في صيغة الحمل ; أما هنا فالاختبار بما هو في الطاقة وإن كانت المشقة شديدة ، فكان ثمة متسع في المبالغة في الصيغة .
[ ص: 1095 ] nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=286واعف عنا واغفر لنا وارحمنا هذه هي الأدعية الثلاثة الأخيرة وكلها في باب واحد ، وهو باب الإحساس بالمصير في القيام بالواجب ، وهي مرتبة من الإيمان سامية ; لأن
nindex.php?page=treesubj&link=19734_19988المؤمن يفرض التقصير في نفسه ليسعى إلى الكمال ، وليرجو رحمة الكبير المتعال ، لا يفرض في نفسه الكمال حتى لا يدلى بغرور ، ويكون ممن زين له سوء عمله فرآه حسنا . وحال الرسول مع المتقين حال الشاعرين بالتقصير مهما يكن مقدار ما قاموا به ; وإذا ضرعوا بهذا الدعاء ; طالبوا بالعفو بألا يحاسبهم على ما عساه يكون منهم من هفوات ، أو ما تتحدث به نفوسهم من إصرار على شر ولا نية له ، وما يكون موضع الحساب يضرعون إلى ربهم أن يكون موضع غفرانه ، فيستر ذنوبهم ولا يفضحهم ، ثم يضرعون إلى الله بعد ذلك أن يمن عليهم برحمته في الدنيا والآخرة ، وإنهم لفرط إحساسهم بالتقصير لا يعتبرون الثواب جزاء ، بل يعتبرونه رحمة ومنة وفضلا من رب العالمين .
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=286أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين هذه هي الوثيقة الربانية ، يستمسكون بها ، وهي إحساسهم بأن الله مولاهم ، أي معينهم وكالئهم وناصرهم وممدهم بفضله ، وقد طلبوا منه النصرة الدائمة على القوم الكافرين . وإن هذا الدعاء الأخير يقوي المعنى الذي قررناه في تفسير قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=286ولا تحمل علينا إصرا
وإنا نضرع إلى المولى جلت قدرته أن يعفو عنا ، ويغفر لنا ، ويرحمنا ، إنه الغفور الرحيم ، والعفو القدير .
* * *
nindex.php?page=treesubj&link=20009_28640_28723_30231_30364_30505_30526_30527_32079_32840_34113_34232_34513_28973nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=286لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ : " الْوُسْعُ مَا يَسَعُ الْإِنْسَانَ وَلَا يُضَيِّقُ عَلَيْهِ وَلَا يُحَرِّجُ فِيهِ ، أَيْ لَا يُكَلِّفُهَا إِلَّا مَا يَتَّسِعُ فِيهِ طَوْقُهُ ، وَيَتَيَسَّرُ عَلَيْهِ دُونَ مَدَى الطَّاقَةِ وَالْمَجْهُودِ . وَهَذَا إِخْبَارٌ عَنْ عَدْلِهِ وَرَحْمَتِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=185يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ لِأَنَّهُ كَانَ فِي إِمْكَانِ الْإِنْسَانِ وَطَاقَتِهِ أَنْ يُصَلِّيَ أَكْثَرَ مِنَ الْخَمْسِ ، وَيَصُومَ أَكْثَرَ مِنَ الشَّهْرِ ، وَيَحُجَّ أَكْثَرَ مِنْ حَجَّةٍ ، وَهَذَا الْكَلَامُ يُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّ الْوُسْعَ غَيْرُ الطَّاقَةِ ، فَالطَّاقَةُ هِيَ غَايَةُ الْمَجْهُودِ وَأَقْصَاهُ ، وَمَا يَفْعَلُهُ الْإِنْسَانُ قَادِرًا عَلَيْهِ وَلَكِنْ فِي تَعَبٍ وَجُهْدٍ ، وَالْوُسْعُ مَا يَكُونُ فِي الْإِمْكَانِ ، وَلَكِنْ تَكُونُ بَعْدَ الْأَدَاءِ سَعَةٌ مِنْ قُدْرَةٍ عَلَى أَدَاءِ غَيْرِهِ ، وَلَكِنْ لَا يُؤَدِّي الزِّيَادَةَ إِلَّا بِجُهْدٍ . وَلَا يُفْهَمُ مِنْ هَذَا أَنَّ تَكْلِيفَ الْوُسْعِ لَا تَكُونُ فِيهِ مَشَقَّةٌ قَطُّ ، بَلْ إِنَّ كُلَّ تَكْلِيفٍ هُوَ أَمْرٌ بِمَا فِيهِ كُلْفَةٌ ، وَهِيَ الْمَشَقَّةُ ; وَعَلَى ذَلِكَ تَكُونُ التَّكْلِيفَاتُ الشَّرْعِيَّةُ لَهَا ثَلَاثُ خَوَاصَّ مُلَازِمَةٌ : وَهِيَ أَنَّ فِيهَا مَشَقَّةً مُحْتَمَلَةً ، وَأَنَّهَا تَكُونُ فِي الْوُسْعِ وَالْقُدْرَةِ مِنْ غَيْرِ حَرِجٍ وَلَا ضِيقٍ ، وَأَنَّهَا تَكُونُ مِنْ غَيْرِ مَجْهُودٍ شَدِيدٍ يَكُونُ
[ ص: 1091 ] أَقْصَى الطَّاقَةِ . تِلْكَ هِيَ خَوَاصُّ تَكْلِيفِ اللَّهِ تَعَالَى لِكُلِّ نَفْسٍ كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْجُمْلَةُ السَّامِيَةُ .
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=286لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ السَّامِيَةُ تُبَيِّنُ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=30531_29468كُلَّ تَكْلِيفٍ قَدِ اقْتَرَنَ بِجَزَائِهِ ، وَأَنَّ كُلَّ امْرِئٍ سَيُجْزَى عَلَى الْخَيْرِ خَيْرًا ، وَعَلَى الشَّرِّ شَرًّا . وَمَا تَضَمَّنَهُ ذَلِكَ النَّصُّ الْكَرِيمُ هُوَ نَتِيجَةٌ لِمَا تَضَمَّنَهُ النَّصُّ السَّابِقُ ; لِأَنَّ النَّصَّ السَّابِقَ أَفَادَ أَنَّ ثَمَّةَ تَكْلِيفًا ، وَلَا يُنْتِجُ التَّكْلِيفُ نَتَائِجَهُ إِلَّا إِذَا كَانَ ثَمَّةَ جَزَاءٌ ; وَالنَّصُّ السَّابِقُ أَيْضًا أَفَادَ أَنَّ اللَّهَ لَا يُكَلِّفُ إِلَّا بِمَا يَكُونُ فِي الْقُدْرَةِ مِنْ غَيْرِ إِرْهَاقٍ ، بَلْ بِإِرَادَةٍ حُرَّةٍ وَيُسْرٍ لَا عُسْرَ فِيهِ . وَذَلِكَ أَسَاسٌ لِلْقِيَامِ بِالتَّكْلِيفِ بِإِرَادَةٍ حُرَّةٍ ، وَمَقْدِرَةٍ غَيْرِ مُرْهِقَةٍ ; وَذَلِكَ يُوجِبُ الْجَزَاءَ الْعَادِلَ .
وَقَدِ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=286لَهَا مَا كَسَبَتْ الْمُرَادُ بِهَا الْحَسَنَاتُ الَّتِي يُثِيبُ اللَّهُ عَلَيْهَا ; وَقَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=286وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ الْمُرَادُ بِهِ السَّيِّئَاتُ الَّتِي الَّتِي يُعَاقِبُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهَا . وَقَدْ أَخَذُوا هَذَا مِنَ النَّصِّ بِاللَّامِ فِي الْجُمْلَةِ الْأُولَى ، وَالنَّصِّ بِعَلَى فِي الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ ; فَإِنَّ التَّعْبِيرَ بِاللَّامِ الَّتِي تُفِيدُ الْمِلْكِيَّةَ الْمُفِيدَةَ فِي مُقَابِلِ عَلَى الَّتِي تُفِيدُ التَّحْمِيلَ ، وَوَضْعَ الشَّيْءِ عَلَى الشَّخْصِ ، يَجْعَلُ الْأُولَى مُفِيدَةً لِلْجَزَاءِ ثَوَابًا ، وَالثَّانِيَةَ مُفِيدَةً لِلْجَزَاءِ عِقَابًا ; وَإِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ التَّقَابُلُ ، فَإِنَّهُ يُعَبَّرُ بِاللَّامِ فِي مَوْضِعِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ ; فَيَقُولُ سُبْحَانَهُ : ( وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ، وَ ( لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ، إِذْ لَا قَرِينَةَ تَدُلُّ عَلَى الْمِلْكِيَّةِ الْمُفِيدَةِ ; فَتَكُونُ اللَّامُ لِمُطْلَقِ الِاخْتِصَاصِ .
وَهُنَا سُؤَالٌ لَفْظِيٌّ : لِمَاذَا عَبَّرَ سُبْحَانَهُ عَنْ هَذَا الْخَيْرِ بِقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=286لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَنِ الشَّرِّ بِـ
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=286اكْتَسَبَتْ مَعَ أَنَّ الْكَسْبَ يَكُونُ لِلْخَيْرِ وَلِلشَّرِّ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=27وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا ؟ وَقَدْ أَجَابَ عَنْ ذَلِكَ
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزَّمَخْشَرِيُّ بِقَوْلِهِ : " فِي الِاكْتِسَابِ اعْتِمَالٌ ; فَلَمَّا كَانَ الشَّرُّ مِمَّا تَشْتَهِيهِ النَّفْسُ ، وَهِيَ مُنْجَذِبَةٌ إِلَيْهِ وَأَمَّارَةٌ بِهِ ، كَانَتْ فِي تَحْصِيلِهِ أَعْمَلُ وَأَجَدُّ ; فَجُعِلَتْ لِذَلِكَ مُكْتَسِبَةً
[ ص: 1092 ] فِيهِ " وَهَذَا التَّعْلِيلُ قَدْ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ الشَّرَّ الْكَبِيرَ الَّذِي تَعْتَمِلُهُ النَّفْسُ وَتَجِدُّ فِيهِ ، وَتُلِحُّ وَتَسْتَمِرُّ عَلَيْهِ ، هُوَ مَوْضِعُ الْمُؤَاخَذَةِ ، وَالضَّئِيلُ قَدْ يَكُونُ مَوْضِعَ الْعَفْوِ ، أَيْ مَا تَفْعَلُهُ النَّفْسُ مِنْ خَيْرٍ فَكُلُّهُ مَوْضِعُ ثَوَابٍ ، قَلَّ أَوْ جَلَّ ، وَذَلِكَ مَعْنَى صَحِيحٌ .
وَلَكِنَّ هُنَاكَ تَعْلِيلًا آخَرَ نَرَاهُ ، وَهُوَ أَنَّ التَّعْبِيرَ بِـ اكْتَسَبَ يُفِيدُ مَعْنَى الِاعْتِمَالِ ، وَهُوَ مَا يَفْعَلُهُ الْإِنْسَانُ غَيْرَ مُنْسَاقٍ إِلَيْهِ ، وَالطَّبِيعَةُ الْإِنْسَانِيَّةُ تَنْحُو نَحْوَ الْخَيْرِ ، وَالشَّرُّ ضِدُّ الْفِطْرَةِ وَضِدُّ الْوِجْدَانِ وَالضَّمِيرِ ، وَمَنْ يَفْعَلُهُ يُغَالِبُ فِطْرَتَهُ ثُمَّ لَا يَلْبَثُ إِلَّا قَلِيلًا حَتَّى يَذُوقَ شَجَرَةَ الشَّرِّ فَيَنْسَاقَ ، وَإِنَّ الْإِنْسَانَ لِيَرَى ذَلِكَ فِي كُلِّ مَنْ يَرْتَكِبُ الْجَرَائِمَ ، فَهُوَ يَبْتَدِئُ بِالْجَرِيمَةِ مُغَالِبًا نَفْسَهُ ثُمَّ تُطَاوِعُهُ ثُمَّ يَنْسَاقُ ، فَالْقَاتِلُ كَذَلِكَ ، وَالسَّارِقُ ، وَالزَّانِي ، أَوَّلُ جَرِيمَةٍ يَرْتَكِبُهَا بِتَعَمُّلٍ ، ثُمَّ يَأْلَفُ الِارْتِكَابَ فَيَكُونُ سَهْلًا ، لِذَلِكَ عَبَّرَ عَنِ الشَّرِّ بِالِاكْتِسَابِ ، لِأَنَّهُ ضِدُّ الْفِطْرَةِ الَّتِي فَطَرَ اللَّهُ النَّاسَ عَلَيْهَا ، وَضِدُّ الضَّمِيرِ ، وَعَبَّرَ عَنِ الْخَيْرِ هُنَا بِالْكَسْبِ لِأَنَّهُ الْفِطْرَةُ .
وَبَعْدَ بَيَانِ سُنَّةِ اللَّهِ فِي التَّكْلِيفِ وَجَزَائِهِ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ
nindex.php?page=treesubj&link=19775_32498حَالَ الْمُؤْمِنِ الْمُخْلِصِ فِي ضَرَاعَتِهِ ، وَضَرَاعَتُهُ بِالِالْتِجَاءِ إِلَى رَبِّهِ وَدُعَائِهِ ، وَقَدْ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ سِتَّةَ أَدْعِيَةٍ تُفِيدُ هَذِهِ الضَّرَاعَةَ وَتُشِيرُ إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَخَوَاصِّ شَرْعِهِ الشَّرِيفِ .
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=286رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا هَذَا هُوَ الدُّعَاءُ الْأَوَّلُ ، وَقَدِ ابْتَدَأَ بِنِدَاءِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِـ " رَبَّنَا " لِكَمَالِ الضَّرَاعَةِ وَالشُّعُورِ بِالرُّبُوبِيَّةِ ، وَكَمَالِ إِنْعَامِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَضَعْفِ الْمَخْلُوقِ أَمَامَ الْخَالِقِ ، وَوَفَاءِ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِ أَمَامَ الْمُنْعِمِ ، وَلِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ مَا تَضَمَّنَهُ الدُّعَاءُ مِنَ النِّعَمِ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا ، وَكَمَالِ الرُّبُوبِيَّةِ الَّتِي رَبَّ النَّاسَ بِهَا .
وَالْمُؤَاخَذَةُ مَعْنَاهَا الْمُجَازَاةُ ، وَأَصْلُهَا مِنَ الْأَخْذِ . وَفِي التَّعْبِيرِ عَنِ الْمُجَازَاةِ بِالْمُؤَاخَذَةِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَا يَسْتَحِقُّونَ مِنْ عِقَابٍ هُوَ فِي نَظِيرِ مَا أَخَذُوا مِنْ نِعَمٍ لَمْ يَعْرِفُوا حَقَّهَا ، فَهُمْ أَخَذُوهَا وَجَحَدُوهَا ، فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِحَقِّهَا .
[ ص: 1093 ] وَقَدْ سَأَلَ سَائِلٌ : لِمَاذَا ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْ أَحْوَالِهِمْ هَذَا الدُّعَاءَ مَعَ أَنَّهُ مَرْفُوعٌ عَنْ أُمَّةِ
مُحَمَّدٍ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=19568رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ " ؟ وَقَدْ أَجَابَ عَنْ ذَلِكَ
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزَّمَخْشَرِيُّ فَقَالَ : " إِنَّهُمْ كَانُوا مُتَّقِينَ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ، فَمَا كَانَتْ تَفْرُطُ مِنْهُمْ فَرْطَةً إِلَّا عَلَى وَجْهِ النِّسْيَانِ وَالْخَطَأِ ، فَكَانَ وَصْفُهُمْ بِالدُّعَاءِ بِذَلِكَ إِيذَانًا بِبَرَاءَةِ سَاحَتِهِمْ عَمَّا يُؤَاخَذُونَ بِهِ ، كَأَنَّهُ قِيلَ : إِنْ كَانَ النِّسْيَانُ وَالْخَطَأُ مِمَّا يُؤَاخَذُ بِهِ فَمَا فِيهِمْ سَبَبُ الْمُؤَاخَذَةِ إِلَّا الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَيَجُوزُ أَنْ يَدْعُوَ الْإِنْسَانُ بِمَا عَلِمَ أَنَّهُ حَاصِلٌ لَهُ قَبْلَ الدُّعَاءِ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ لِاسْتِدَامَتِهِ وَالِاعْتِدَادِ بِالنِّعْمَةِ فِيهِ " . هَذِهِ إِجَابَةٌ قَيِّمَةٌ ، وَأَزِيدُ عَلَيْهَا أَنَّ الْمُتَّقِينَ أُرْهِفَتْ ضَمَائِرُهُمْ وَقَوِيَتْ نُفُوسُهُمْ ، وَاشْتَدَّتْ خَشْيَتُهُمْ مِنَ اللَّهِ ، حَتَّى لَقَدْ أَحَسُّوا مِنْ فَرْطِ حَسَاسِيَتِهِمْ أَنَّهُمْ مُحَاسَبُونَ عَلَى مَا لَا حِسَابَ عَلَيْهِ ; وَإِنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=19862الْمُؤْمِنَ التَّقِيَّ يَسْتَكْثِرُ هَفَوَاتِهِ ، وَيَسْتَقِلُّ حَسَنَاتِهِ ، وَإِنَّ النِّسْيَانَ وَالْخَطَأَ قَدْ تَوَهَّمُوا فِيهِمَا أَنْ يَكُونَ سَبَبُهُمَا الْإِهْمَالَ وَعَدَمَ الْعِنَايَةِ ، وَهُمَا كَذَلِكَ أَحْيَانًا ، فَكَانَ فَرْطُ إِحْسَاسِهِمْ مُرَجِّحًا لِجَانِبِ الْمُؤَاخَذَةِ عَلَى جَانِبِ الْعَفْوِ ، وَجَانِبِ الْخَوْفِ عَلَى جَانِبِ الرَّجَاءِ ، فَكَانَ الدُّعَاءُ .
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=286رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا الْإِصْرُ : هُوَ الْعِبْءُ الْكَبِيرُ ، مَأْخُوذٌ مِنْ أَصَرَ بِمَعْنَى حَبَسَ ، فَكَأَنَّهُ لِثِقَلِهِ يَحْبِسُ صَاحِبَهُ فِي مَكَانِهِ فَيَمْنَعُهُ مِنَ الْحَرَكَةِ ، وَحَمَلَ عَلَيْهِ بِمَعْنَى وَضَعَ عَلَيْهِ وَأَلْقَى عَلَيْهِ . وَهَذَا هُوَ الدُّعَاءُ الثَّانِي ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ أُولَئِكَ الْمُتَّقِينَ حَالُهُمْ حَالُ ضَرَاعَةٍ لِرَبِّهِمْ بِأَلَّا يُلْقِيَ عَلَيْهِمْ آصَارًا شِدَادًا مِنَ التَّكْلِيفَاتِ تَثْقُلُ عَلَيْهِمْ حَتَّى يَعْجِزُوا عَنْ أَدَائِهَا أَوْ لَا يُؤَدُّوهَا إِلَّا فِي حَالٍ مِنَ الشِّدَّةِ ، كَمَا حَمَلَ اللَّهُ جَلَّتْ قُدْرَتُهُ وَعَلَتْ حِكْمَتُهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ . وَلَكِنْ مَا هَذِهِ الْآصَارُ ، وَتِلْكَ الْأَعْبَاءُ ; أَهِيَ أَعْبَاءٌ مِنَ التَّكْلِيفَاتِ تَتَعَلَّقُ بِالْأَوَامِرِ الشَّرْعِيَّةِ وَالنَّوَاهِي ، أَمْ هِيَ مَا يُبْتَلَى بِهِ الْمُؤْمِنُ مِنْ شَدَائِدَ وَاخْتِبَارَاتٍ كَمَا ابْتَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=214أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ [ ص: 1094 ] وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرُ اللَّهِ قَرِيبٌ
وَإِنِّي أَمِيلُ إِلَى أَنَّ الْآصَارَ هِيَ مِنْ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الِابْتِلَاءِ ، كَأَنَّهُمْ لِرَغْبَتِهِمْ فِي نَصْرِ اللَّهِ تَعَالَى يَضْرَعُونَ إِلَيْهِ أَنْ يَمُدَّهُمْ بِعَوْنِهِ فِي حَمْلِ عِبْءِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ نَشْرِ الْإِسْلَامِ وَالدَّعْوَةِ إِلَيْهِ . وَيُزَكِّي ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي خِتَامِ السُّورَةِ
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=286فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ وَلَكِنْ هَلْ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُمْ لَا يُرِيدُونَ أَنْ يُخْتَبَرُوا كَمَا اخْتُبِرَ أَقْوِيَاءُ الْإِيمَانِ مِمَّنْ سَبَقُوهُمْ ؟ وَأَقُولُ فِي الْإِجَابَةِ عَنْ ذَلِكَ : إِنَّ طَالِبَ الْحَقِّ الْمُؤْمِنَ بِهِ يَسْتَكْثِرُ فِعْلَ الْخَيْرِ مِنْ غَيْرِهِ ، وَيَسْتَقِلُّ حَالَ نَفْسِهِ وَفِعْلِهِ ، وَكَأَنَّهُمْ يَعْتَرِفُونَ بِفَضْلِ مَنْ سَبَقُوهُمْ ، وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ دُونَهُمْ ، فَيَطْلُبُونَ عَوْنَ اللَّهِ تَعَالَى ، وَذَلِكَ دَلِيلُ قُوَّةِ الْإِيمَانِ ، وَأَنَّهُمْ لَيْسُوا أَقَلَّ مِنْهُمْ ، بَلْ يَزِيدُونَ بِذَلِكَ الِاعْتِرَافِ الْكَرِيمِ .
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=286رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ الطَّاقَةُ : قَالَ فِيهَا
الرَّاغِبُ الْأَصْفَهَانِيُّ مَا نَصُّهُ : " الطَّاقَةُ اسْمٌ لِمِقْدَارِ مَا يُمْكِنُ الْإِنْسَانُ أَنْ يَفْعَلَهُ بِمَشَقَّةٍ ; وَذَلِكَ تَشْبِيهٌ بِالطَّوْقِ الْمُحِيطِ بِالشَّيْءِ ; فَقَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=286وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ أَيْ مَا يَصْعُبُ عَلَيْنَا مُزَاوَلَتُهُ ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ لَا تَحَمِّلْنَا مَا لَا قُدْرَةَ لَنَا بِهِ ; فَالطَّاقَةُ عَلَى هَذَا تَكُونُ فِيمَا يُمْكِنُ فِعْلُهُ بِأَقْصَى الْقُدْرَةِ . وَهَذَا هُوَ الدُّعَاءُ الثَّالِثُ وَقَدْ كُرِّرَتْ فِيهِ كَلِمَةُ " رَبَّنَا " لِكَمَالِ الضَّرَاعَةِ وَلِبَيَانِ أَنَّ حَالَهُمْ دَائِمًا يَتَجَدَّدُ فِيهَا الشُّعُورُ بِالرُّبُوبِيَّةِ ، وَحَقِّ الْخَالِقِ الْمُنْعِمِ عَلَيْهِمْ . وَهَذَا هُوَ الدُّعَاءُ هُوَ تَدَرُّجٌ مُتَرَتِّبٌ عَلَى الدُّعَاءِ السَّابِقِ . لَقَدْ ضَرِعُوا إِلَى اللَّهِ أَلَّا يَخْتَبِرَهُمْ ذَلِكَ الِاخْتِبَارَ الشَّدِيدَ الَّذِي أُلْقِيَ عَلَى عَاتِقِ مَنْ سَبَقُوهُمْ أَوْ يَخْشَوْنَ أَلَّا يَقُومُوا بِحَقِّهِ كَمَا قَامَ مَنْ قَبْلَهُمْ ثُمَّ يَضْرَعُونَ الْآنَ أَلَّا يُكَلَّفُوا إِلَّا مَا يُطِيقُونَ ، أَيْ أَنَّهُمْ عَلَى أَتَمِّ اسْتِعْدَادٍ لِأَنْ يَبْذُلُوا أَقْصَى قُدْرَتِهِمْ ، وَغَايَةَ قُوَّتِهِمْ ; فَإِنَّ الطَّاقَةَ أَقْصَى الْقُدْرَةِ كَمَا بَيَّنَّا وَنَقَلْنَا . فَمَعْنَى الْجُمْلَةِ السَّامِيَةِ : لَا تُحَمِّلْنَا مَا فَوْقَ الطَّاقَةِ وَنَحْنُ عَلَى اسْتِعْدَادٍ بِعَوْنِكُمْ لِمَا هُوَ كُلُّ الطَّاقَةِ . وَهَذِهِ حَالٌ مِنَ الْإِيمَانِ سَامِيَةٌ . وَعَبَّرَ هُنَا بِالْفِعْلِ الْمُضَعَّفِ " تُحَمِّلْنَا " وَفِي الْأَوَّلِ مِنْ غَيْرِ تَضْعِيفٍ ; لِأَنَّ الْإِصْرَ نَفْسُهُ وَالتَّعْبِيرُ بِعَلَى فِيهِمَا بَيَانُ شِدَّةِ الِاخْتِبَارِ ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى مُبَالَغَةٍ فِي صِيغَةِ الْحَمْلِ ; أَمَّا هُنَا فَالِاخْتِبَارُ بِمَا هُوَ فِي الطَّاقَةِ وَإِنْ كَانَتِ الْمَشَقَّةُ شَدِيدَةً ، فَكَانَ ثَمَّةَ مُتَّسَعٌ فِي الْمُبَالَغَةِ فِي الصِّيغَةِ .
[ ص: 1095 ] nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=286وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا هَذِهِ هِيَ الْأَدْعِيَةُ الثَّلَاثَةُ الْأَخِيرَةُ وَكُلُّهَا فِي بَابٍ وَاحِدٍ ، وَهُوَ بَابُ الْإِحْسَاسِ بِالْمَصِيرِ فِي الْقِيَامِ بِالْوَاجِبِ ، وَهِيَ مَرْتَبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ سَامِيَةٌ ; لِأَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=19734_19988الْمُؤْمِنَ يَفْرِضُ التَّقْصِيرَ فِي نَفْسِهِ لِيَسْعَى إِلَى الْكَمَالِ ، وَلِيَرْجُوَ رَحْمَةَ الْكَبِيرِ الْمُتَعَالِ ، لَا يَفْرِضُ فِي نَفْسِهِ الْكَمَالَ حَتَّى لَا يُدَلَّى بِغُرُورٍ ، وَيَكُونُ مِمَّنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا . وَحَالُ الرَّسُولِ مَعَ الْمُتَّقِينَ حَالُ الشَّاعِرِينَ بِالتَّقْصِيرِ مَهْمَا يَكُنْ مِقْدَارُ مَا قَامُوا بِهِ ; وَإِذَا ضَرِعُوا بِهَذَا الدُّعَاءِ ; طَالَبُوا بِالْعَفْوِ بِأَلَّا يُحَاسِبَهُمْ عَلَى مَا عَسَاهُ يَكُونُ مِنْهُمْ مِنْ هَفَوَاتٍ ، أَوْ مَا تَتَحَدَّثُ بِهِ نُفُوسُهُمْ مِنْ إِصْرَارٍ عَلَى شَرٍّ وَلَا نِيَّةَ لَهُ ، وَمَا يَكُونُ مَوْضِعُ الْحِسَابِ يَضْرَعُونَ إِلَى رَبِّهِمْ أَنْ يَكُونَ مَوْضِعَ غُفْرَانِهِ ، فَيَسْتُرُ ذُنُوبَهُمْ وَلَا يَفْضَحُهُمْ ، ثُمَّ يَضْرَعُونَ إِلَى اللَّهِ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَمُنَّ عَلَيْهِمْ بِرَحْمَتِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، وَإِنَّهُمْ لِفَرْطِ إِحْسَاسِهِمْ بِالتَّقْصِيرِ لَا يَعْتَبِرُونَ الثَّوَابَ جَزَاءً ، بَلْ يَعْتَبِرُونَهُ رَحْمَةً وَمِنَّةً وَفَضْلًا مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ .
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=286أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ هَذِهِ هِيَ الْوَثِيقَةُ الرَّبَّانِيَّةُ ، يَسْتَمْسِكُونَ بِهَا ، وَهِيَ إِحْسَاسُهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَاهُمْ ، أَيْ مُعِينُهُمْ وَكَالِئُهُمْ وَنَاصِرُهُمْ وَمُمِدُّهُمْ بِفَضْلِهِ ، وَقَدْ طَلَبُوا مِنْهُ النُّصْرَةَ الدَّائِمَةَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ . وَإِنَّ هَذَا الدُّعَاءَ الْأَخِيرَ يُقَوِّي الْمَعْنَى الَّذِي قَرَّرْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=286وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا
وَإِنَّا نَضْرَعُ إِلَى الْمَوْلَى جَلَّتْ قُدْرَتُهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنَّا ، وَيَغْفِرَ لَنَا ، وَيَرْحَمَنَا ، إِنَّهُ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ، وَالْعَفُوُّ الْقَدِيرُ .
* * *