nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=12nindex.php?page=treesubj&link=28994_32405_28658_28784_32688ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=13ثم جعلناه نطفة في قرار مكين nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=14ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين الواو عاطفة غرضا على غرض ويسمى عطف القصة على القصة ، فللجملة حكم الاستيناف ; لأنها عطف على جملة (
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=1قد أفلح المؤمنون ) التي هي ابتدائية . وهذا شروع في الاستدلال على انفراد الله تعالى بالخلق وبعظيم القدرة التي لا يشاركه فيها غيره ، وعلى أن الإنسان مربوب لله تعالى وحده ، والاعتبار بما في خلق الإنسان وغيره من دلائل القدرة ومن عظيم النعمة . فالمقصود منه إبطال الشرك ; لأن ذلك الأصل الأصيل في ضلال المعرضين عن الدعوة المحمدية .
[ ص: 22 ] ويتضمن ذلك امتنانا على الناس بأنه أخرجهم من مهانة العدم إلى شرف الوجود وذلك كله ليظهر الفرق بين فريق المؤمنين الذين جروا في إيمانهم على ما يليق بالاعتراف بذلك وبين فريق المشركين الذين سلكوا طريقا غير بينة فحادوا عن مقتضى الشكر بالشرك .
وتأكيد الخبر بلام القسم وحرف التحقيق مراعى فيه التعريض بالمشركين المنزلين منزلة من ينكر هذا الخبر لعدم جريهم على موجب العلم .
والخلق : الإنشاء والصنع ، قد تقدم في قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=47قال كذلك الله يخلق ما يشاء في آل عمران . والمراد بالإنسان : يجوز أن يكون النوع الإنساني . وفسر به
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ومجاهد ، فالتعريف للجنس . وضمير ( جعلناه ) عائد إلى الإنسان .
والسلالة : الشيء المسلول ، أي : المنتزع من شيء آخر ، يقال : سللت السيف ، إذا أخرجته من غمده . فالسلالة : خلاصة من شيء ، ووزن فعالة يؤذن بالقلة مثل القلامة والصبابة .
و ( من ) ابتدائية ، أي خلقناه منفصلا وآتيا من سلالة ، فتكون السلالة على هذا مجموع ماء الذكر والأنثى المسلول من دمهما .
وهذه السلالة هي ما يفرزه جهاز الهضم من الغذاء حين يصير دما ; فدم الذكر حين يمر على غدتي التناسل ( الأنثيين ) تفرز منه الأنثيان مادة دهنية شحمية تحتفظ بها وهي التي تتحول إلى مني حين حركة الجماع ، فتلك السلالة مخرجة من الطين لأنها من الأغذية التي أصلها من الأرض . ودم المرأة إذا مر على قناة الرحم ترك فيها بويضات دقيقة هي بذر الأجنة . ومن اجتماع تلك المادة الدهنية التي في الأنثيين مع البويضة من البويضات التي في قناة الرحم يتكون الجنين فلا جرم هو مخلوق من سلالة من طين .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=13nindex.php?page=treesubj&link=32688_28994ثم جعلناه نطفة في قرار مكين طور آخر للخلق وهو طور اختلاط السلالتين في الرحم . سميت سلالة الذكر نطفة لأنها تنطف ، أي : تقطر في الرحم في قناة معروفة وهو : القرار المكين .
[ ص: 23 ] فـ ( نطفة ) منصوب على الحال وقوله : ( في قرار مكين ) هو المفعول الثاني لـ ( جعلناه ) . و ( ثم ) للترتيب الرتبي ; لأن ذلك الجعل أعظم من خلق السلالة . فضمير ( جعلناه ) عائد إلى الإنسان باعتبار أنه من السلالة ، فالمعنى : جعلنا السلالة في قرار مكين ، أي : وضعناها فيه حفظا لها ، ولذلك غير في الآية التعبير عن فعل الخلق إلى فعل الجعل المتعدي بـ ( في ) بمعنى : الوضع .
والقرار في الأصل : مصدر قر إذا ثبت في مكانه . وقد سمي به هنا المكان نفسه . والمكين : الثابت في المكان بحيث لا يقلع من مكانه ، فمقتضى الظاهر أن يوصف بالمكين الشيء الحال في المكان الثابت فيه . وقد وقع هنا وصفا لنفس المكان الذي استقرت فيه النطفة ، على طريقة المجاز العقلي للمبالغة ، وحقيقته مكين حاله . وقد تقدم قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=37أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة في سورة الكهف ، وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=5فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة في سورة الحج .
ويجوز أن يراد بالإنسان في قوله : ولقد خلقنا الإنسان
آدم . وقال بذلك
قتادة فتكون السلالة الطينة الخاصة التي كون الله منها آدم وهي الصلصال الذي ميزه من الطين في مبدأ الخليقة ، فتلك الطينة مسلولة سلا خاصا من الطين ليتكون منها حي ، وعليه فضمير جعلناه نطفة على هذا الوجه عائد إلى الإنسان باعتبار كونه نسلا لآدم فيكون في الضمير استخدام ، ويكون معنى هذه الآية كمعنى قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=7وبدأ خلق الإنسان من طين nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=8ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين .
وحرف ( ثم ) في قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=14ثم خلقنا النطفة علقة للترتيب الرتبي إذ كان خلق النطفة علقة أعجب من خلق النطفة إذ صير الماء السائل دما جامدا فتغير بالكثافة وتبدل اللون من عوامل أودعها الله في الرحم .
ومن إعجاز القرآن العلمي تسمية هذا الكائن باسم العلقة فإنه وضع بديع لهذا الاسم إذ قد ثبت في علم التشريح أن هذا الجزء الذي استحالت
[ ص: 24 ] إليه النطفة هو كائن حي له قوة امتصاص القوة من دم الأم بسبب التصاقه بعروق في الرحم تدفع إليه قوة الدم . والعلقة : قطعة من دم عاقد .
والمضغة : القطعة الصغيرة من اللحم مقدار اللقمة التي تمضغ . وقد تقدم في أول سورة الحج كيفية تخلق الجنين .
وعطف ( جعل العلقة مضغة ) بالفاء ; لأن الانتقال من العلقة إلى المضغة يشبه تعقيب شيء عن شيء إذ اللحم والدم الجامد متقاربان فتطورهما قريب وإن كان مكث كل طور مدة طويلة .
وخلق المضغة عظاما هو تكوين العظام في داخل تلك المضغة وذلك ابتداء تكوين الهيكل الإنساني من عظم ولحم ، وقد دل عليه قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=14فكسونا العظام لحما بفاء التفريع على الوجه الذي قرر في عطف فخلقنا المضغة بالفاء .
فمعنى ( فكسونا ) أن اللحم كان كالكسوة للعظام ولا يقتضي ذلك أن العظام بقيت حينا غير مكسوة ، وفي الحديث الصحيح :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10341107إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح الحديث ، فإذا نفخ فيه الروح فقد تهيأ للحياة والنماء وذلك هو المشار إليه بقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=14ثم أنشأناه خلقا آخر ; لأن الخلق المذكور قبله كان دون حياة ثم نشأ فيه خلق الحياة وهي حالة أخرى طرأت عليه عبر عنها بالإنشاء . وللإشارة إلى التفاوت الرتبي بين الخلقين عطف هذا الإنشاء بـ ( ثم ) الدالة على أصل الترتيب في عطف الجمل بـ ( ثم ) .
وهذه الأطوار التي تعرضت لها الآية سبعة أطوار فإذا تمت فقد صار المتخلق حيا . وفي شرح الموطأ : ( تناجى رجلان في مجلس
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب وعلي حاضر فقال لهما
عمر : ما هذه المناجاة ؟ فقال أحدهما : إن
اليهود يزعمون أن
nindex.php?page=treesubj&link=23886العزل هو الموءودة الصغرى ، فقال
علي : لا تكون موءودة حتى
[ ص: 25 ] تمر عليها التارات السبع
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=12ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين الآية ، فقال
عمر لعلي : ( صدقت أطال الله بقاءك ) . فقيل : إن
عمر أول من دعا بكلمة ( أطال الله بقاءك ) .
وقرأ الجمهور
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=14فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام بصيغة جمع ( العظام ) فيهما ، وقرأه
ابن عامر وأبو بكر عن
عاصم ( عظما . . والعظم ) بصيغة الإفراد .
وفرع على حكاية هذا الخلق العجيب إنشاء الثناء على الله تعالى بأنه أحسن الخالقين أي : أحسن المنشئين إنشاء ; لأنه أنشأ ما لا يستطيع غيره إنشاءه .
ولما كانت دلالة خلق الإنسان على عظم القدرة أسبق إلى اعتبار المعتبر كان الثناء المعقب به ثناء على بديع قدرة الخالق مشتقا من البركة وهي : الزيادة .
وصيغة تفاعل صيغة مطاوعة في الأصل وأصل المطاوعة : قبول أثر الفعل ، وتستعمل في لازم ذلك وهو التلبس بمعنى الفعل تلبسا مكينا ; لأن شأن المطاوعة أن تكون بعد معالجة الفعل فتقتضي ارتساخ معنى الفعل في المفعول القابل له حتى يصير ذلك المفعول فاعلا فيقال : كسرته فتكسر ، فلذلك كان تفاعل إذا جاء بمعنى فعل ، دالا على المبالغة ، كما صرح به الرضي في شرح الشافية ، ولذلك تتفق صيغ المطاوعة وصيغ التكلف غالبا في نحو : تثنى ، وتكبر ، وتشامخ ، وتقاعس . فمعنى
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=54تبارك الله أنه موصوف بالعظمة في الخير ، أي : عظمة ما يقدره من خير للناس وصلاح لهم .
وبهذا الاعتبار تكون الجملة تذييلا ; لأن ( تبارك ) لما حذف متعلقه كان عاما فيشمل عظمة الخير في الخلق وفي غيره . وكذلك حذف متعلق ( الخالقين ) يعم خلق الإنسان وخلق غيره كالجبال والسماوات .
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=12nindex.php?page=treesubj&link=28994_32405_28658_28784_32688وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=13ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=14ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ الْوَاوُ عَاطِفَةٌ غَرَضًا عَلَى غَرَضٍ وَيُسَمَّى عَطْفَ الْقِصَّةِ عَلَى الْقِصَّةِ ، فَلِلْجُمْلَةِ حُكْمُ الِاسْتِينَافِ ; لِأَنَّهَا عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=1قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ) الَّتِي هِيَ ابْتِدَائِيَّةٌ . وَهَذَا شُرُوعٌ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى انْفِرَادِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْخَلْقِ وَبِعَظِيمِ الْقُدْرَةِ الَّتِي لَا يُشَارِكُهُ فِيهَا غَيْرُهُ ، وَعَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ مَرْبُوبٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ ، وَالِاعْتِبَارُ بِمَا فِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ وَغَيْرِهِ مِنْ دَلَائِلِ الْقُدْرَةِ وَمِنْ عَظِيمِ النِّعْمَةِ . فَالْمَقْصُودُ مِنْهُ إِبْطَالُ الشِّرْكِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ الْأَصْلَ الْأَصِيلَ فِي ضَلَالِ الْمُعْرِضِينَ عَنِ الدَّعْوَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ .
[ ص: 22 ] وَيَتَضَمَّنُ ذَلِكَ امْتِنَانًا عَلَى النَّاسِ بِأَنَّهُ أَخْرَجَهُمْ مِنْ مَهَانَةِ الْعَدَمِ إِلَى شَرَفِ الْوُجُودِ وَذَلِكَ كُلُّهُ لِيَظْهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ فَرِيقِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ جَرَوْا فِي إِيمَانِهِمْ عَلَى مَا يَلِيقُ بِالِاعْتِرَافِ بِذَلِكَ وَبَيْنَ فَرِيقِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ سَلَكُوا طَرِيقًا غَيْرَ بَيِّنَةٍ فَحَادُوا عَنْ مُقْتَضَى الشُّكْرِ بِالشِّرْكِ .
وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِلَامِ الْقَسَمِ وَحَرْفِ التَّحْقِيقِ مُرَاعًى فِيهِ التَّعْرِيضُ بِالْمُشْرِكِينَ الْمُنَزَّلِينَ مَنْزِلَةَ مَنْ يُنْكِرُ هَذَا الْخَبَرَ لِعَدَمِ جَرْيِهِمْ عَلَى مُوجِبِ الْعِلْمِ .
وَالْخَلْقُ : الْإِنْشَاءُ وَالصُّنْعُ ، قَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=47قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ فِي آلِ عِمْرَانَ . وَالْمُرَادُ بِالْإِنْسَانِ : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّوْعَ الْإِنْسَانِيَّ . وَفَسَّرَ بِهِ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ ، فَالتَّعْرِيفُ لِلْجِنْسِ . وَضَمِيرُ ( جَعَلْنَاهُ ) عَائِدٌ إِلَى الْإِنْسَانِ .
وَالسُّلَالَةُ : الشَّيْءُ الْمَسْلُولُ ، أَيِ : الْمُنْتَزَعُ مِنْ شَيْءٍ آخَرَ ، يُقَالُ : سَلَلْتُ السَّيْفَ ، إِذَا أَخْرَجْتُهُ مِنْ غِمْدِهِ . فَالسُّلَالَةُ : خُلَاصَةٌ مِنْ شَيْءٍ ، وَوَزْنُ فُعَالَةٌ يُؤْذِنُ بِالْقِلَّةِ مِثْلَ الْقُلَامَةِ وَالصُّبَابَةِ .
وَ ( مِنْ ) ابْتِدَائِيَّةٌ ، أَيْ خَلَقْنَاهُ مُنْفَصِلًا وَآتِيًا مِنْ سُلَالَةٍ ، فَتَكُونُ السُّلَالَةُ عَلَى هَذَا مَجْمُوعَ مَاءِ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى الْمَسْلُولِ مِنْ دَمِهِمَا .
وَهَذِهِ السُّلَالَةُ هِيَ مَا يُفْرِزُهُ جِهَازُ الْهَضْمِ مِنَ الْغِذَاءِ حِينَ يَصِيرُ دَمًا ; فَدَمُ الذَّكَرِ حِينَ يَمُرُّ عَلَى غُدَّتَيِ التَّنَاسُلِ ( الْأُنْثَيَيْنِ ) تُفْرِزُ مِنْهُ الْأُنْثَيَانِ مَادَّةً دُهْنِيَّةً شَحْمِيَّةً تَحْتَفِظُ بِهَا وَهِيَ الَّتِي تَتَحَوَّلُ إِلَى مَنِيٍّ حِينَ حَرَكَةِ الْجِمَاعِ ، فَتِلْكَ السُّلَالَةُ مُخْرَجَةٌ مِنَ الطِّينِ لِأَنَّهَا مِنَ الْأَغْذِيَةِ الَّتِي أَصْلُهَا مِنَ الْأَرْضِ . وَدَمُ الْمَرْأَةِ إِذَا مَرَّ عَلَى قَنَاةِ الرَّحِمِ تَرَكَ فِيهَا بُوَيْضَاتٍ دَقِيقَةً هِيَ بَذْرُ الْأَجِنَّةِ . وَمِنَ اجْتِمَاعِ تِلْكَ الْمَادَّةِ الدُّهْنِيَّةِ الَّتِي فِي الْأُنْثَيَيْنِ مَعَ الْبُوَيْضَةِ مِنَ الْبُوَيْضَاتِ الَّتِي فِي قَنَاةِ الرَّحِمِ يَتَكَوَّنُ الْجَنِينُ فَلَا جَرَمَ هُوَ مَخْلُوقٌ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ .
وَقَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=13nindex.php?page=treesubj&link=32688_28994ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ طَوْرٌ آخَرُ لِلْخَلْقِ وَهُوَ طَوْرُ اخْتِلَاطِ السُّلَالَتَيْنِ فِي الرَّحِمِ . سُمِّيَتْ سُلَالَةُ الذَّكَرَ نُطْفَةً لِأَنَّهَا تُنْطَفُ ، أَيْ : تُقْطَرُ فِي الرَّحِمِ فِي قَنَاةٍ مَعْرُوفَةٍ وَهُوَ : الْقَرَارُ الْمَكِينُ .
[ ص: 23 ] فَـ ( نُطْفَةً ) مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ وَقَوْلُهُ : ( فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ) هُوَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي لِـ ( جَعَلْنَاهُ ) . وَ ( ثُمَّ ) لِلتَّرْتِيبِ الرُّتْبِيِّ ; لِأَنَّ ذَلِكَ الْجَعْلَ أَعْظَمُ مِنْ خَلْقِ السُّلَالَةِ . فَضَمِيرُ ( جَعَلْنَاهُ ) عَائِدٌ إِلَى الْإِنْسَانِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مِنَ السُّلَالَةِ ، فَالْمَعْنَى : جَعَلْنَا السُّلَالَةَ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ، أَيْ : وَضَعْنَاهَا فِيهِ حِفْظًا لَهَا ، وَلِذَلِكَ غَيَّرَ فِي الْآيَةِ التَّعْبِيرَ عَنْ فِعْلِ الْخَلْقِ إِلَى فِعْلِ الْجَعْلِ الْمُتَعَدِّي بِـ ( فِي ) بِمَعْنَى : الْوَضْعِ .
وَالْقَرَارُ فِي الْأَصْلِ : مَصْدَرُ قَرَّ إِذَا ثَبَتَ فِي مَكَانِهِ . وَقَدْ سُمِّيَ بِهِ هُنَا الْمَكَانُ نَفْسُهُ . وَالْمَكِينُ : الثَّابِتُ فِي الْمَكَانِ بِحَيْثُ لَا يُقْلِعُ مِنْ مَكَانِهِ ، فَمُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُوصَفَ بِالْمَكِينِ الشَّيْءُ الْحَالُّ فِي الْمَكَانِ الثَّابِتُ فِيهِ . وَقَدْ وَقَعَ هُنَا وَصْفًا لِنَفْسِ الْمَكَانِ الَّذِي اسْتَقَرَّتْ فِيهِ النُّطْفَةُ ، عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ لِلْمُبَالَغَةِ ، وَحَقِيقَتُهُ مَكِينٌ حَالُّهُ . وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=37أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ ، وَقَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=5فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ فِي سُورَةِ الْحَجِّ .
وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْإِنْسَانِ فِي قَوْلِهِ : وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ
آدَمُ . وَقَالَ بِذَلِكَ
قَتَادَةُ فَتَكُونُ السُّلَالَةُ الطِّينَةُ الْخَاصَّةُ الَّتِي كَوَّنَ اللَّهُ مِنْهَا آدَمَ وَهِيَ الصَّلْصَالُ الَّذِي مَيَّزَهُ مِنَ الطِّينِ فِي مَبْدَأِ الْخَلِيقَةِ ، فَتِلْكَ الطِّينَةُ مَسْلُولَةٌ سَلًّا خَاصًّا مِنَ الطِّينِ لِيَتَكَوَّنَ مِنْهَا حَيٌّ ، وَعَلَيْهِ فَضَمِيرُ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً عَلَى هَذَا الْوَجْهِ عَائِدٌ إِلَى الْإِنْسَانِ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ نَسْلًا لِآدَمَ فَيَكُونُ فِي الضَّمِيرِ اسْتِخْدَامٌ ، وَيَكُونُ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ كَمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=7وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=8ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ .
وَحَرْفُ ( ثُمَّ ) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=14ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً لِلتَّرْتِيبِ الرُّتْبِيِّ إِذْ كَانَ خَلْقُ النُّطْفَةِ عَلَقَةً أَعْجَبَ مِنْ خَلْقِ النُّطْفَةِ إِذْ صَيَّرَ الْمَاءَ السَّائِلَ دَمًا جَامِدًا فَتَغَيَّرَ بِالْكَثَافَةِ وَتَبَدَّلَ اللَّوْنُ مِنْ عَوَامِلَ أَوْدَعَهَا اللَّهُ فِي الرَّحِمِ .
وَمِنْ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ الْعِلْمِيِّ تَسْمِيَةُ هَذَا الْكَائِنِ بِاسْمِ الْعَلَقَةِ فَإِنَّهُ وَضْعٌ بَدِيعٌ لِهَذَا الِاسْمِ إِذْ قَدْ ثَبَتَ فِي عِلْمِ التَّشْرِيحِ أَنَّ هَذَا الْجُزْءَ الَّذِي اسْتَحَالَتْ
[ ص: 24 ] إِلَيْهِ النُّطْفَةُ هُوَ كَائِنٌ حَيٌّ لَهُ قُوَّةُ امْتِصَاصِ الْقُوَّةِ مِنْ دَمِ الْأُمِّ بِسَبَبِ الْتِصَاقِهِ بِعُرُوقٍ فِي الرَّحِمِ تَدْفَعُ إِلَيْهِ قُوَّةَ الدَّمِ . وَالْعَلَقَةُ : قِطْعَةٌ مِنْ دَمٍ عَاقِدٍ .
وَالْمُضْغَةُ : الْقِطْعَةُ الصَّغِيرَةُ مِنَ اللَّحْمِ مِقْدَارُ اللُّقْمَةِ الَّتِي تُمْضَغُ . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْحَجِّ كَيْفِيَّةُ تَخَلُّقِ الْجَنِينِ .
وَعَطَفَ ( جَعْلَ الْعَلَقَةِ مُضْغَةً ) بِالْفَاءِ ; لِأَنَّ الِانْتِقَالَ مِنَ الْعَلَقَةِ إِلَى الْمُضْغَةِ يُشْبِهُ تَعْقِيبَ شَيْءٍ عَنْ شَيْءٍ إِذِ اللَّحْمُ وَالدَّمُ الْجَامِدُ مُتَقَارِبَانِ فَتَطَوُّرُهُمَا قَرِيبٌ وَإِنْ كَانَ مُكْثُ كُلِّ طَوْرٍ مُدَّةً طَوِيلَةً .
وَخَلْقُ الْمُضْغَةِ عِظَامًا هُوَ تَكْوِينُ الْعِظَامِ فِي دَاخِلِ تِلْكَ الْمُضْغَةِ وَذَلِكَ ابْتِدَاءُ تَكْوِينِ الْهَيْكَلِ الْإِنْسَانِيِّ مِنْ عَظْمٍ وَلَحْمٍ ، وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=14فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا بِفَاءِ التَّفْرِيعِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قُرِّرَ فِي عَطْفِ فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ بِالْفَاءِ .
فَمَعْنَى ( فَكَسَوْنَا ) أَنَّ اللَّحْمَ كَانَ كَالْكِسْوَةِ لِلْعِظَامِ وَلَا يَقْتَضِي ذَلِكَ أَنَّ الْعِظَامَ بَقِيَتْ حِينًا غَيْرَ مَكْسُوَّةٍ ، وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10341107إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يُرْسَلُ إِلَيْهِ الْمَلَكُ فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ الْحَدِيثُ ، فَإِذَا نُفِخَ فِيهِ الرُّوحُ فَقَدْ تَهَيَّأَ لِلْحَيَاةِ وَالنَّمَاءِ وَذَلِكَ هُوَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=14ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ; لِأَنَّ الْخَلْقَ الْمَذْكُورَ قَبْلَهُ كَانَ دُونَ حَيَاةٍ ثُمَّ نَشَأَ فِيهِ خَلْقُ الْحَيَاةِ وَهِيَ حَالَةٌ أُخْرَى طَرَأَتْ عَلَيْهِ عَبَّرَ عَنْهَا بِالْإِنْشَاءِ . وَلِلْإِشَارَةِ إِلَى التَّفَاوُتِ الرُّتْبِيِّ بَيْنَ الْخَلْقَيْنِ عَطَفَ هَذَا الْإِنْشَاءَ بِـ ( ثُمَّ ) الدَّالَّةِ عَلَى أَصْلِ التَّرْتِيبِ فِي عَطْفِ الْجُمَلِ بِـ ( ثُمَّ ) .
وَهَذِهِ الْأَطْوَارُ الَّتِي تَعَرَّضَتْ لَهَا الْآيَةُ سَبْعَةُ أَطْوَارٍ فَإِذَا تَمَّتْ فَقَدْ صَارَ الْمُتَخَلِّقُ حَيًّا . وَفِي شَرْحِ الْمُوَطَّأِ : ( تَنَاجَى رَجُلَانِ فِي مَجْلِسِ
nindex.php?page=showalam&ids=2عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعَلِيٌّ حَاضِرٌ فَقَالَ لَهُمَا
عُمَرُ : مَا هَذِهِ الْمُنَاجَاةُ ؟ فَقَالَ أَحَدُهُمَا : إِنَّ
الْيَهُودَ يَزْعُمُونَ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=23886الْعَزْلَ هُوَ الْمَوْءُودَةُ الصُّغْرَى ، فَقَالَ
عَلِيٌّ : لَا تَكُونُ مَوْءُودَةً حَتَّى
[ ص: 25 ] تَمُرَّ عَلَيْهَا التَّارَاتُ السَّبْعُ
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=12وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ الْآيَةَ ، فَقَالَ
عُمَرُ لِعَلِيٍّ : ( صَدَقْتَ أَطَالَ اللَّهُ بَقَاءَكَ ) . فَقِيلَ : إِنَّ
عُمَرَ أَوَّلُ مَنْ دَعَا بِكَلِمَةِ ( أَطَالَ اللَّهُ بَقَاءَكَ ) .
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=14فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ بِصِيغَةِ جَمْعِ ( الْعِظَامِ ) فِيهِمَا ، وَقَرَأَهُ
ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ
عَاصِمٍ ( عَظْمًا . . وَالْعَظْمَ ) بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ .
وَفُرِّعَ عَلَى حِكَايَةِ هَذَا الْخَلْقِ الْعَجِيبِ إِنْشَاءُ الثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ أَيْ : أَحْسَنُ الْمُنْشِئِينَ إِنْشَاءً ; لِأَنَّهُ أَنْشَأَ مَا لَا يَسْتَطِيعُ غَيْرُهُ إِنْشَاءَهُ .
وَلَمَّا كَانَتْ دَلَالَةُ خَلْقِ الْإِنْسَانِ عَلَى عِظَمِ الْقُدْرَةِ أَسْبِقَ إِلَى اعْتِبَارِ الْمُعْتَبِرِ كَانَ الثَّنَاءُ الْمُعَقَّبُ بِهِ ثَنَاءً عَلَى بَدِيعِ قُدْرَةِ الْخَالِقِ مُشْتَقًّا مِنَ الْبَرَكَةِ وَهِيَ : الزِّيَادَةُ .
وَصِيغَةُ تَفَاعَلَ صِيغَةُ مُطَاوَعَةٍ فِي الْأَصْلِ وَأَصْلُ الْمُطَاوَعَةِ : قَبُولُ أَثَرِ الْفِعْلِ ، وَتُسْتَعْمَلُ فِي لَازِمِ ذَلِكَ وَهُوَ التَّلَبُّسُ بِمَعْنَى الْفِعْلِ تَلَبُّسًا مَكِينًا ; لِأَنَّ شَأْنَ الْمُطَاوَعَةِ أَنْ تَكُونَ بَعْدَ مُعَالَجَةِ الْفِعْلِ فَتَقْتَضِي ارْتِسَاخَ مَعْنَى الْفِعْلِ فِي الْمَفْعُولِ الْقَابِلِ لَهُ حَتَّى يَصِيرَ ذَلِكَ الْمَفْعُولُ فَاعِلًا فَيُقَالُ : كَسَّرْتُهُ فَتَكَسَّرَ ، فَلِذَلِكَ كَانَ تَفَاعَلَ إِذَا جَاءَ بِمَعْنَى فَعَلَ ، دَالًّا عَلَى الْمُبَالَغَةِ ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الرَّضِيُّ فِي شَرْحِ الشَّافِيَةِ ، وَلِذَلِكَ تَتَّفِقُ صِيَغُ الْمُطَاوَعَةِ وَصِيَغُ التَّكَلُّفِ غَالِبًا فِي نَحْوِ : تَثَنَّى ، وَتَكَبَّرَ ، وَتَشَامَخَ ، وَتَقَاعَسَ . فَمَعْنَى
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=54تَبَارَكَ اللَّهُ أَنَّهُ مَوْصُوفٌ بِالْعَظَمَةِ فِي الْخَيْرِ ، أَيْ : عَظَمَةُ مَا يُقَدِّرُهُ مِنْ خَيْرٍ لِلنَّاسِ وَصَلَاحٍ لَهُمْ .
وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ تَكُونُ الْجُمْلَةُ تَذْيِيلًا ; لِأَنَّ ( تَبَارَكَ ) لَمَّا حُذِفَ مُتَعَلِّقُهُ كَانَ عَامًّا فَيَشْمَلُ عَظَمَةَ الْخَيْرِ فِي الْخَلْقِ وَفِي غَيْرِهِ . وَكَذَلِكَ حَذْفُ مُتَعَلِّقِ ( الْخَالِقِينَ ) يَعُمُّ خَلْقَ الْإِنْسَانِ وَخَلْقَ غَيْرِهِ كَالْجِبَالِ وَالسَّمَاوَاتِ .