[ ص: 543 ] المسألة العشرون
لما كانت الدنيا مخلوقة ليظهر فيها أثر القبضتين ، ومبنية على بذل النعم للعباد لينالوها ويتمتعوا بها ، وليشكروا الله عليها فيجازيهم في الدار الأخرى ، حسبما بين لنا الكتاب والسنة ; اقتضى ذلك أن تكون الشريعة التي عرفتنا بهذين مبنية على بيان وجه الشكر في كل نعمة ، وبيان وجه الاستمتاع بالنعم المبذولة مطلقا .
وهذان القصدان أظهر في الشريعة من أن يستدل عليهما ، ألا ترى إلى قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=78والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون [ النحل : 78 ] .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=67&ayano=23هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون [ الملك : 23 ] .
[ ص: 544 ] وقال :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=152فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون [ البقرة : 152 ] .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=114فكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واشكروا نعمة الله إن كنتم إياه تعبدون [ النحل : 114 ] .
وقال :
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=7لئن شكرتم لأزيدنكم [ إبراهيم : 7 ] الآية .
والشكر هو صرف ما أنعم عليك في مرضاة المنعم ، وهو راجع إلى الانصراف إليه بالكلية ، ومعنى بالكلية أن يكون جاريا على مقتضى مرضاته بحسب الاستطاعة في كل حال ، وهو معنى قوله عليه الصلاة والسلام :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337627حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا .
ويستوي في هذا ما كان من العبادات أو العادات .
أما العبادات ; فمن حق الله تعالى الذي لا يحتمل الشركة ; فهي مصروفة إليه .
وأما العادات ; فهي أيضا من حق الله تعالى على النظر الكلي ، ولذلك لا يجوز تحريم ما أحل الله من الطيبات ; فقد قال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=32قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق [ الأعراف : 32 ] الآية .
وقال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=87يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم [ المائدة : 87 ] الآية .
فنهى عن التحريم ، وجعله تعديا على حق الله تعالى ، ولما هم بعض أصحابه بتحريم بعض المحللات قال عليه الصلاة والسلام :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337455من رغب عن سنتي ; فليس مني .
[ ص: 545 ] وذم الله تعالى من حرم على نفسه شيئا مما وضعه من الطيبات بقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=103ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام [ المائدة : 103 ] .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=138وقالوا هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم [ الأنعام : 138 ] الآية .
فذمهم على أشياء في الأنعام والحرث اخترعوها ، منها مجرد التحريم ، وهو المقصود هاهنا .
وأيضا ; ففي العادات حق لله تعالى من جهة وجه الكسب ووجه الانتفاع ; لأن حق الغير محافظ عليه شرعا أيضا ، ولا خيرة فيه للعبد ; فهو حق لله تعالى صرفا في حق الغير ; حتى يسقط حقه باختياره في بعض الجزئيات ، لا في
[ ص: 546 ] الأمر الكلي ، ونفس المكلف أيضا داخلة في هذا الحق ; إذ ليس له التسليط على نفسه ولا على عضو من أعضائه بالإتلاف .
فإذا ; العاديات يتعلق بها حق الله من وجهين :
أحدهما : من جهة الوضع الأول الكلي الداخل تحت الضروريات .
والثاني : من جهة الوضع التفصيلي الذي يقتضيه العدل بين الخلق ، وإجراء المصلحة على وفق الحكمة البالغة ; فصار الجميع ثلاثة أقسام .
[ ص: 547 ] وفيها أيضا حق للعبد من وجهين :
أحدهما : جهة الدار الآخرة ، وهو كونه مجازى عليه بالنعيم ، موقى بسببه عذاب الجحيم .
والثاني : جهة أخذه للنعمة على أقصى كمالها فيما يليق بالدنيا ، لكن بحسبه في خاصة نفسه ، كما قال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=32قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة [ الأعراف : 32 ] ، وبالله التوفيق .
[ ص: 543 ] الْمَسْأَلَةُ الْعِشْرُونَ
لَمَّا كَانَتِ الدُّنْيَا مَخْلُوقَةً لِيَظْهَرَ فِيهَا أَثَرُ الْقَبْضَتَيْنِ ، وَمَبْنِيَّةً عَلَى بَذْلِ النِّعَمِ لِلْعِبَادِ لِيَنَالُوهَا وَيَتَمَتَّعُوا بِهَا ، وَلِيَشْكُرُوا اللَّهَ عَلَيْهَا فَيُجَازِيهِمْ فِي الدَّارِ الْأُخْرَى ، حَسْبَمَا بَيَّنَ لَنَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ ; اقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ الشَّرِيعَةُ الَّتِي عَرَّفَتْنَا بِهَذَيْنِ مَبْنِيَّةً عَلَى بَيَانِ وَجْهِ الشُّكْرِ فِي كُلِّ نِعْمَةٍ ، وَبَيَانِ وَجْهِ الِاسْتِمْتَاعِ بِالنِّعَمِ الْمَبْذُولَةِ مُطْلَقًا .
وَهَذَانِ الْقَصْدَانِ أَظْهَرُ فِي الشَّرِيعَةِ مِنْ أَنْ يُسْتَدَلَّ عَلَيْهِمَا ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=78وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [ النَّحْلِ : 78 ] .
وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=67&ayano=23هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ [ الْمُلْكِ : 23 ] .
[ ص: 544 ] وَقَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=152فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ [ الْبَقَرَةِ : 152 ] .
وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=114فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [ النَّحْلِ : 114 ] .
وَقَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=7لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [ إِبْرَاهِيمَ : 7 ] الْآيَةَ .
وَالشُّكْرُ هُوَ صَرْفُ مَا أُنْعِمَ عَلَيْكَ فِي مَرْضَاةِ الْمُنْعِمِ ، وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى الِانْصِرَافِ إِلَيْهِ بِالْكُلِّيَّةِ ، وَمَعْنَى بِالْكُلِّيَّةِ أَنْ يَكُونَ جَارِيًا عَلَى مُقْتَضَى مَرْضَاتَهُ بِحَسْبِ الِاسْتِطَاعَةِ فِي كُلِّ حَالٍ ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337627حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا .
وَيَسْتَوِي فِي هَذَا مَا كَانَ مِنَ الْعِبَادَاتِ أَوِ الْعَادَاتِ .
أَمَّا الْعِبَادَاتُ ; فَمِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ الشَّرِكَةَ ; فَهِيَ مَصْرُوفَةٌ إِلَيْهِ .
وَأَمَّا الْعَادَاتُ ; فَهِيَ أَيْضًا مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى النَّظَرِ الْكُلِّيِّ ، وَلِذَلِكَ لَا يَجُوزُ تَحْرِيمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ; فَقَدْ قَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=32قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ [ الْأَعْرَافِ : 32 ] الْآيَةَ .
وَقَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=87يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ [ الْمَائِدَةِ : 87 ] الْآيَةَ .
فَنَهَى عَنِ التَّحْرِيمِ ، وَجَعَلَهُ تَعَدِّيًا عَلَى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى ، وَلَمَّا هَمَّ بَعْضُ أَصْحَابِهِ بِتَحْرِيمِ بَعْضِ الْمُحَلَّلَاتِ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337455مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي ; فَلَيْسَ مِنِّي .
[ ص: 545 ] وَذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ شَيْئًا مِمَّا وَضَعَهُ مِنَ الطَّيِّبَاتِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=103مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ [ الْمَائِدَةِ : 103 ] .
وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=138وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ [ الْأَنْعَامِ : 138 ] الْآيَةَ .
فَذَمَّهُمْ عَلَى أَشْيَاءَ فِي الْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ اخْتَرَعُوهَا ، مِنْهَا مُجَرَّدُ التَّحْرِيمِ ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ هَاهُنَا .
وَأَيْضًا ; فَفِي الْعَادَاتِ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى مِنْ جِهَةِ وَجْهِ الْكَسْبِ وَوَجْهِ الِانْتِفَاعِ ; لِأَنَّ حَقَّ الْغَيْرِ مُحَافَظٌ عَلَيْهِ شَرْعًا أَيْضًا ، وَلَا خِيَرَةَ فِيهِ لِلْعَبْدِ ; فَهُوَ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى صَرْفًا فِي حَقِّ الْغَيْرِ ; حَتَّى يَسْقُطَ حَقُّهُ بِاخْتِيَارِهِ فِي بَعْضِ الْجُزْئِيَّاتِ ، لَا فِي
[ ص: 546 ] الْأَمْرِ الْكُلِّيِّ ، وَنَفْسُ الْمُكَلَّفِ أَيْضًا دَاخِلَةٌ فِي هَذَا الْحَقِّ ; إِذْ لَيْسَ لَهُ التَّسْلِيطُ عَلَى نَفْسِهِ وَلَا عَلَى عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ بِالْإِتْلَافِ .
فَإِذَا ; الْعَادِيَّاتُ يَتَعَلَّقُ بِهَا حَقُّ اللَّهِ مِنْ وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : مِنْ جِهَةِ الْوَضْعِ الْأَوَّلِ الْكُلِّيِّ الدَّاخِلِ تَحْتَ الضَّرُورِيَّاتِ .
وَالثَّانِي : مِنْ جِهَةِ الْوَضْعِ التَّفْصِيلِيِّ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْعَدْلُ بَيْنَ الْخَلْقِ ، وَإِجْرَاءُ الْمَصْلَحَةِ عَلَى وَفْقِ الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ ; فَصَارَ الْجَمِيعُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ .
[ ص: 547 ] وَفِيهَا أَيْضًا حَقٌّ لِلْعَبْدِ مِنْ وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : جِهَةُ الدَّارِ الْآخِرَةِ ، وَهُوَ كَوْنُهُ مُجَازًى عَلَيْهِ بِالنَّعِيمِ ، مُوَقًّى بِسَبَبِهِ عَذَابَ الْجَحِيمِ .
وَالثَّانِي : جِهَةُ أَخْذِهِ لِلنِّعْمَةِ عَلَى أَقْصَى كَمَالِهَا فِيمَا يَلِيقُ بِالدُّنْيَا ، لَكِنْ بِحَسَبِهِ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=32قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ [ الْأَعْرَافِ : 32 ] ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ .