[ ص: 12 ] فصل
وهذا الموضع كثير الفائدة ، عظيم النفع بالنسبة إلى المتمسك بالكليات إذا عارضتها الجزئيات وقضايا الأعيان ; فإنه إذا تمسك بالكلي كان له الخيرة في الجزئي في حمله على وجوه كثيرة ; فإن تمسك بالجزئي لم يمكنه مع التمسك الخيرة في الكلي ; فثبت في حقه المعارضة ، ورمت به أيدي الإشكالات في مهاو بعيدة ، وهذا هو أصل الزيغ والضلال في الدين ; لأنه اتباع للمتشابهات ، وتشكك في القواطع المحكمات ، ولا توفيق إلا بالله .
ومن فوائد سهولة المتناول في انقطاع الخصام والتشغيب الواقع من المخالفين .
ومثال هذا ما وقع في بعض المجالس ، وقد ورد على
غرناطة بعض طلبة العدوة الأفريقية ; فأورد على مسألة العصمة الإشكال المورد في قتل
موسى للقبطي ، وأن ظاهر القرآن يقضي بوقوع المعصية منه عليه السلام بقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=15هذا من عمل الشيطان [ القصص : 15 ] وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=16رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي [ القصص : 16 ]
[ ص: 13 ] فأخذ معه في تفصيل ألفاظ الآية بمجردها ، وما ذكر فيها من التأويلات بإخراج الآيات عن ظواهرها ، وهذا المأخذ لا يتخلص ، وربما وقع الانفصال على غير وفاق ; فكان مما ذاكرت به بعض الأصحاب في ذلك : أن المسألة سهلة في النظر إذا روجع بها الأصل ، وهي مسألة
nindex.php?page=treesubj&link=21376عصمة الأنبياء عليهم السلام ; فيقال له : الأنبياء معصومون من الكبائر باتفاق أهل السنة وعن الصغائر باختلاف ، وقد قام البرهان على ذلك في علم الكلام ; فمحال أن يكون هذا الفعل من
موسى كبيرة ، وإن قيل : إنهم معصومون أيضا من الصغائر ، وهو صحيح ; فمحال أن يكون ذلك الفعل منه ذنبا ، فلم يبق إلا أن يقال : إنه ليس بذنب ، ولك في التأويل السعة بكل ما يليق بأهل النبوة ولا ينبو عنه ظاهر الآيات فاستحسن ذلك ، ورأى ذلك مأخذا علميا في المناظرات ، وكثيرا ما يبني عليه النظار ، وهو حسن ، والله أعلم .
[ ص: 12 ] فَصْلٌ
وَهَذَا الْمَوْضِعُ كَثِيرُ الْفَائِدَةِ ، عَظِيمُ النَّفْعِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُتَمَسِّكِ بِالْكُلِّيَّاتِ إِذَا عَارَضَتْهَا الْجُزْئِيَّاتُ وَقَضَايَا الْأَعْيَانِ ; فَإِنَّهُ إِذَا تَمَسَّكَ بِالْكُلِّيِّ كَانَ لَهُ الْخِيَرَةُ فِي الْجُزْئِيِّ فِي حَمْلِهِ عَلَى وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ ; فَإِنْ تَمَسَّكَ بِالْجُزْئِيِّ لَمْ يُمْكِنْهُ مَعَ التَّمَسُّكِ الْخِيَرَةُ فِي الْكُلِّيِّ ; فَثَبَتَ فِي حَقِّهِ الْمُعَارَضَةُ ، وَرَمَتْ بِهِ أَيْدِي الْإِشْكَالَاتِ فِي مَهَاوٍ بَعِيدَةٍ ، وَهَذَا هُوَ أَصْلُ الزَّيْغِ وَالضَّلَالِ فِي الدِّينِ ; لِأَنَّهُ اتِّبَاعٌ لِلْمُتَشَابِهَاتِ ، وَتَشَكُّكٌ فِي الْقَوَاطِعِ الْمُحْكَمَاتِ ، وَلَا تَوْفِيقَ إِلَّا بِاللَّهِ .
وَمِنْ فَوَائِدِ سُهُولَةِ الْمُتَنَاوَلِ فِي انْقِطَاعِ الْخِصَامِ وَالتَّشْغِيبِ الْوَاقِعِ مِنَ الْمُخَالِفِينَ .
وَمِثَالُ هَذَا مَا وَقَعَ فِي بَعْضِ الْمَجَالِسِ ، وَقَدْ وَرَدَ عَلَى
غَرْنَاطَةَ بَعْضُ طَلَبَةِ الْعُدْوَةِ الْأَفْرِيقِيَّةِ ; فَأَوْرَدَ عَلَى مَسْأَلَةِ الْعِصْمَةِ الْإِشْكَالَ الْمُورَدَ فِي قَتْلِ
مُوسَى لِلْقِبْطِيِّ ، وَأَنَّ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ يَقْضِي بِوُقُوعِ الْمَعْصِيَةِ مِنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=15هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ [ الْقَصَصِ : 15 ] وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=16رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي [ الْقَصَصِ : 16 ]
[ ص: 13 ] فَأَخَذَ مَعَهُ فِي تَفْصِيلِ أَلْفَاظِ الْآيَةِ بِمُجَرَّدِهَا ، وَمَا ذَكَرَ فِيهَا مِنَ التَّأْوِيلَاتِ بِإِخْرَاجِ الْآيَاتِ عَنْ ظَوَاهِرِهَا ، وَهَذَا الْمَأْخَذُ لَا يَتَخَلَّصُ ، وَرُبَّمَا وَقَعَ الِانْفِصَالُ عَلَى غَيْرِ وِفَاقٍ ; فَكَانَ مِمَّا ذَاكَرْتُ بِهِ بَعْضَ الْأَصْحَابِ فِي ذَلِكَ : أَنَّ الْمَسْأَلَةَ سَهْلَةٌ فِي النَّظَرِ إِذَا رُوجِعَ بِهَا الْأَصْلُ ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ
nindex.php?page=treesubj&link=21376عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ ; فَيُقَالُ لَهُ : الْأَنْبِيَاءُ مَعْصُومُونَ مِنَ الْكَبَائِرِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَعَنِ الصَّغَائِرِ بِاخْتِلَافٍ ، وَقَدْ قَامَ الْبُرْهَانُ عَلَى ذَلِكَ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ ; فَمُحَالٌ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْفِعْلُ مِنْ
مُوسَى كَبِيرَةً ، وَإِنْ قِيلَ : إِنَّهُمْ مَعْصُومُونَ أَيْضًا مِنَ الصَّغَائِرِ ، وَهُوَ صَحِيحٌ ; فَمُحَالٌ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْفِعْلُ مِنْهُ ذَنْبًا ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يُقَالَ : إِنَّهُ لَيْسَ بِذَنْبٍ ، وَلَكَ فِي التَّأْوِيلِ السَّعَةُ بِكُلِّ مَا يَلِيقُ بِأَهْلِ النُّبُوَّةِ وَلَا يَنْبُو عَنْهُ ظَاهِرُ الْآيَاتِ فَاسْتَحْسَنَ ذَلِكَ ، وَرَأَى ذَلِكَ مَأْخَذًا عِلْمِيًّا فِي الْمُنَاظَرَاتِ ، وَكَثِيرًا مَا يَبْنِي عَلَيْهِ النُّظَّارُ ، وَهُوَ حَسَنٌ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .